١٤١٧هـ - ١٩٩٧م
كم كان ذلك اليوم طويلا .. كم هي كثيرة أحداثة , ومتباينة مشاعرنا فيه !
في يوم مشرق جميل وبعد استئناس في رحلة إلى بحيرة لوغن ، عزمنا مغادرة المجموعة وقطع الرحلة مبكرا للتبضع في لانكستر قبل حلول المساء والعودة إلى ديارنا القريبة ، آثنز بطبيعة الحال وليست السعودية .
تلك الرحلة الماتعة التي تضم عددا من عائلات مسلمي مدينة آثنز ، ضمن أنشطة مركزها الإسلامي التابع لاتحاد الطلبة المسلمين بجامعة أوهايو ، التقيت فيها أخوات أحببتهن حقا في الله . وليس من شيئ يعكر صفو المجلس إذا النفوس التقت على رابط واحد هو الدين . فلا لغة تجمعنا ، ومنا الأندونيسية والماليزية والتركية والأمريكية والعربية . ولا وطنية توحدنا ونحن أكثر تنوعا في هذه . ولا عِرق ولا نسب من باب أولى . بل لا مصالح ولا عمل ولا دراسة تمثل عاملا مشتركا بين أكثرنا . هو المسجد ولا غيره .. ولا غيره .. فما أجمل اللقاء إذ ذاك !!
ما أجمل المنظر يتراءى أمام مخيلتي وأنا أكتب الآن .. خضرةٌ وماء ووجوهٌ حسان .. حسّنها عندي رباط الأخوة في الله . ولربما ملّ حديثي الآن من لم يدرك حلاوته , ربما يظن أن صفصفة الكلام المكرر المستهلك أمر مملول ، وهو كذلك !
لكن .. عند الإحساس الصادق الجميل لا يمل تكراره ولا يستهلك !
ربما يدركه من يتذوق المرويّ الشعبي الشهير :
ياما حلا الفنجال مع سيحة البال .. في مجلسٍ مافيه نفسٍ ثقيله
هذا ولد عمٍ وهذا ولد خال .. وهذا رفيقٍ مالقينا مثيله
وليس السر في الفنجال أو في سيحة البال .. بل الجليس وما تعظّمه في نفسك من ارتباطٍ به هو السر ..
وليس عندي أحب من رباط الدين .. والحمدلله !
بحيرة لوغن ، بحيرة على طريقنا إلى كولومبوس عاصمة ولاية أوهايو . تقع بعد مدينة لانكستر الصغيرة على الطريق من آثنز إلى كولمبوس ..
بحيرة لوغن .. بحيرة لا يغني الحديث عن جمالها وصف واصف .. زرقاء .. رحبة .. زاخرة .. تطوقها الأشجار والخضرة من كل جانب .. وترصّع بعض نواحي ضفافها بيوت مطلة .. قد اعتنى أصحابها بها حتى أصبحت كالجواهر تزيد بهاء البحيرة بهاءً إلى بهائها ورونقا إلى رونقها.. ووددت لو رأيتها في ليلة مقمرة كيف تكون ، والبيوت والأكواخ قد أضاءت مصابيحها فانعكست قلائد ألماس على سطح البحيرة وانتثرت تتلألأ هنا وهناك ..
يمكن للسائح في بحيرة لوغن أن يستأجر قاربا فيتفسّح في أرجائها .. وأحسب أنني ركبته فيها مرتين على الأقل .. فكانت رحلة بحرية ولا أجمل ! إن بحيرة لوغن بحيرة مميزة .. لا تمل تكرار الإبحار فيها .. نسأل الله الجنة .
حان وقت العودة ، ووجدت أنني أنتزع نفسي انتزاعا من مجلس أحبُّه ، غير أن الليل قد قرب حضوره ، والفرص تشح عن أن تتوفر للتسوق في سوق كبير كـ " مايار " ، حيث لا مثيل له في آثنز ، والحاجة للتسوق تتأكد عند أسرة متوسطة العدد بين الحين والآخر .
فنادى أبو عبدالله أن قد حان وقت الإياب ، فلملمت حاجاتي وهيأت أطفالي ، وودعت صحبتي ، وقفلنا راجعين صوب آثنز ، قاصدين لانكستر للتوقف عند متجر "مايار" الكبير للتبضع والشراء ..
لاشك أن أسواق أمريكا إذ ذاك كانت جزءًا من نزهتنا تلك السنوات ، إذ لم نكن نرى في ديارنا شبيها لها في حجمها الضخم .. لم تكن كلمات كـ " جاينت " و " هايبر " تصطف ضمن قائمة التسوق في ديارنا ، لقد اكتشفناها هناك .. لكنها ما لبثت أن استقبلتنا في الديار عندما رجعنا إليها .. ألا ما أسهل انتقال الأنظمة في عصر العولمة !!
ما إن وصلنا حتى تحفز الصغار لخوض غمار "مايار" والغوص في لجته . ليس الشأن عندهم كما عندنا : أن لا "مايار" في ديارنا السعودية ، فأطفالنا صغار السن قد أفاقت خبرتهم ووعت تجربتهم في آثنز فقط . وإنما الشأن أن آثنز مدينة صغيرة جدا ، لا تضم سوى قدرا يسيرا جدا من الأسواق في ذلك الحين . تكاد تكون مدينة جامعية وحسب ، وهي مكان مناسب للدراسة والدراسة فقط .. ربما تغير وضعها الآن !
أثناء تسوقنا في "مايار" علا صوت المكبر معلنا أن عاصفة رعدية ستلمّ بالمنطقة . وأن على المتسوقين أن يأخذوا حذرهم ، وأن يعودوا إلى بيوتهم إو إلى ديارهم إن أمكنهم ، أو البقاء في "مايار" أو في مكان آمن حتى تنتهي العاصفة ..
عجّلنا تسوّقنا ، ولم نشأ أن نظل محبوسين في السوق حتى انتهاء العاصفة في وقت متأخر ، فكان لابد أن نيمم صوب مدينتا لنصل قبل العاصفة أو نتجاوز محلها على أقل تقدير . كان النهار في ساعاته الأخيرة واليوم يتأهب ليخلع رداء النور عن عاتقه ليحل الظلام ويحين المساء .. وللمساء ألف حكاية وحكاية !!
.....
....
حثنا أبو عبدالله لنستعجل ونترك ما بأيدينا ، وكم هو الأمر عسير على الأطفال ، فحوسبنا
ثم هرعنا إلى السيارة وكززنا مشترياتنا اليسيرة فيها سريعا، فانطلقنا إلى أثنز .
وفي أول الطريق كنا نتحادث عن إمعان الأمريكان في التحذير من أحوال الطقس ، وربما كنا نفكر في مبالغتهم في التحوط والتحذير . كانت السماء آخذة في التزيي بأنواع من السحب حتى اكتظت أرديتها واكتمل كساؤها صفيقا ثقيلا داكنا ، وبدأت تزمجر !
وميض البرق وهزيم الرعود خلفية اعتدناها لأحداث الأيام هناك ، فلم يكن ثمة ما يخيف أو يقلق . وإن آمن مكان للناس في الشوارع عند العواصف الرعدية هي سياراتهم .. فلا مسوّغ للخوف أو الرعب حتى هذه اللحظة ..
وفي الطريق من لانكستر إلى آثنز كانت ظلمة الليل توغل في مسائنا ..
في طريق لانكستر إلى آثنز تزداد ظلمة الليل ظلمة وتشتد حلكة السماء إذ توشحت بالمعصِرات الثقال ..
وإذ يحاصر الطريق جبال شاهقة سوداء ..
ظلمات ثلاث ، بعضها فوق بعض ، قد أطبقت علينا وطوقتنا .. في طريق لانكستر !
كانت السماء تزمجر والظلمة تشتد ، فعمدنا إلى شريط لإمام الحرم ففتحناه ليقرأ علينا سورة من القرآن تطمئن بها قلوبنا .. وتهدأ أنفسنا ..
ويعلو هزيم الرعد ، ويشتد برقه ، وتصب السماء ماءها شديد الهطول . ويشتد الهطول مع كل ومضة وزمجرة ، وتتوالى الصواعق الرعدية صاعقة إثر أخرى ، هنا أيقنا أن الوضع على الطريق السريع جد خطير ..
كان الطريق زلقا ، وكانت السيارات تسير على مهل شديد ، حتى كانت تسير الواحدة إثر الأخرى بحذر وبطء .. وخوف وفزع وما شئت من حال حين ينعدم أمنك ويحيط بك الخطر ..
كان الطريق كحقل ألغام ومتفجرات ، صوت لم آشهد مثله في حياتي ، والجبال على طرف الطريق تضيء قممه جدا عند الصاعقة حين تمتد من الغيوم إلى الأرض ، شاخصة طولية كخناجر عملاقة مضيئة وغاضبة . ثم يعود الطريق حالك السواد لا نرى منه سوى أنوار خافتة للسيارات أمامنا وخلفنا ، تظهر وتتضاءل بحسب كمية الأمطار المتدفقة من السماء ..
كانت السماء تشقق ذات اليمين وذات الشمال ، وذات الجهتين أحيانا تباعا وعلى وتيرة متلاحقة ، لا تمهلنا العاصفة فنهدأ ! ولا تتأخر عنا فنذوق طعم الطمأنينة برهة ! بل أننا شعرنا أن برقا قد حل فوقنا تماما وهز سيارتنا . ربنا رحماك ولطفك !
إنه الفزع والخوف .. إنه اللجوء إلى ركن الله الشديد .. إنه تسليم الأمر إليه .. والاستغفار له .. ورجاء رحمته .. وقوته وحفظه وحمايته .. وصوت إمام الحرم يتلو آيات الله .. تلملم فزع القلوب ، ومشاعرها النافرة المتجهة إلى الله والخوف من سطوته لتحيطها برجاء عفوه ومغفرته واستحضار قرب إجابته ، وعظيم رحمته التي تسبق غضبه ..
كان الطريق إلى آثنز مسرح ألغام متفجرة ..
وكان الدعاء يارب يارب ..
والصغار صامتون !!
عند أقرب مخرج .. خرجنا إلى طريق محلي فالمضي كان أمرا تستحيل معه الطمأنينة .. وتحت مظلة محطة البنزين تظلّلنا وعدد من السيارات ، ثم نزلنا إلى البقالة القريبة من محطة البنزين إلا أن سيارات الأمن منعت وقوفنا قريبا من المحطة ، خوفَ وجودنا قرب مواد قابلة للاشتعال في مثل هذا الظرف الخطير ..
.عندها قاد أبو عبد الله بنا السيارة إلى مكان آمن فمكثنا فيها حتى حين ..
.. هنالك شعرنا كثيرا بالاطمئنان بعد الفزع ، وانتظرنا حتى هدأت العاصفة شيئا معقولا ،
ثم أكملنا طريقنا إلى بيتنا في آثنز ، وصلناه وكأننا وصلنا إلى بر الأمان بعد لجة المحيط المتلاطم ، أو كأن يدا انتشلتنا من ساحة المعركة الرهيبة إلى مكان بعيد دافئٍ آمنٍ مطمئن ..
ما أروع الأمن والطمأنينة !
والحمد لله كثيرا ..