‏إظهار الرسائل ذات التسميات الرحلة الأمريكية. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات الرحلة الأمريكية. إظهار كافة الرسائل

الخميس، ١٤ يناير ٢٠١٠

طريق لانكستر حقل ألغام

١٤١٧هـ - ١٩٩٧م


كم كان ذلك اليوم طويلا .. كم هي كثيرة أحداثة , ومتباينة مشاعرنا فيه !


في يوم مشرق جميل وبعد استئناس في رحلة إلى بحيرة لوغن ، عزمنا مغادرة المجموعة وقطع الرحلة مبكرا للتبضع في لانكستر قبل حلول المساء والعودة إلى ديارنا القريبة ، آثنز بطبيعة الحال وليست السعودية .
تلك الرحلة الماتعة التي تضم عددا من عائلات مسلمي مدينة آثنز ، ضمن أنشطة مركزها الإسلامي التابع لاتحاد الطلبة المسلمين بجامعة أوهايو ، التقيت فيها أخوات أحببتهن حقا في الله . وليس من شيئ يعكر صفو المجلس إذا النفوس التقت على رابط واحد هو الدين . فلا لغة تجمعنا ، ومنا الأندونيسية والماليزية والتركية والأمريكية والعربية . ولا وطنية توحدنا ونحن أكثر تنوعا في هذه . ولا عِرق ولا نسب من باب أولى . بل لا مصالح ولا عمل ولا دراسة تمثل عاملا مشتركا بين أكثرنا . هو المسجد ولا غيره .. ولا غيره .. فما أجمل اللقاء إذ ذاك !!



ما أجمل المنظر يتراءى أمام مخيلتي وأنا أكتب الآن .. خضرةٌ وماء ووجوهٌ حسان .. حسّنها عندي رباط الأخوة في الله . ولربما ملّ حديثي الآن من لم يدرك حلاوته , ربما يظن أن صفصفة الكلام المكرر المستهلك أمر مملول ، وهو كذلك !

لكن .. عند الإحساس الصادق الجميل لا يمل تكراره ولا يستهلك !

ربما يدركه من يتذوق المرويّ الشعبي الشهير :
ياما حلا الفنجال مع سيحة البال .. في مجلسٍ مافيه نفسٍ ثقيله
هذا ولد عمٍ وهذا ولد خال .. وهذا رفيقٍ مالقينا مثيله
وليس السر في الفنجال أو في سيحة البال .. بل الجليس وما تعظّمه في نفسك من ارتباطٍ به هو السر ..
وليس عندي أحب من رباط الدين .. والحمدلله !




بحيرة لوغن ، بحيرة على طريقنا إلى كولومبوس عاصمة ولاية أوهايو . تقع بعد مدينة لانكستر الصغيرة على الطريق من آثنز إلى كولمبوس ..
بحيرة لوغن .. بحيرة لا يغني الحديث عن جمالها وصف واصف .. زرقاء .. رحبة .. زاخرة .. تطوقها الأشجار والخضرة من كل جانب .. وترصّع بعض نواحي ضفافها بيوت مطلة .. قد اعتنى أصحابها بها حتى أصبحت كالجواهر تزيد بهاء البحيرة بهاءً إلى بهائها ورونقا إلى رونقها.. ووددت لو رأيتها في ليلة مقمرة كيف تكون ، والبيوت والأكواخ قد أضاءت مصابيحها فانعكست قلائد ألماس على سطح البحيرة وانتثرت تتلألأ هنا وهناك ..
يمكن للسائح في بحيرة لوغن أن يستأجر قاربا فيتفسّح في أرجائها .. وأحسب أنني ركبته فيها مرتين على الأقل .. فكانت رحلة بحرية ولا أجمل ! إن بحيرة لوغن بحيرة مميزة .. لا تمل تكرار الإبحار فيها .. نسأل الله الجنة .
حان وقت العودة ، ووجدت أنني أنتزع نفسي انتزاعا من مجلس أحبُّه ، غير أن الليل قد قرب حضوره ، والفرص تشح عن أن تتوفر للتسوق في سوق كبير كـ " مايار " ، حيث لا مثيل له في آثنز ، والحاجة للتسوق تتأكد عند أسرة متوسطة العدد بين الحين والآخر .

فنادى أبو عبدالله أن قد حان وقت الإياب ، فلملمت حاجاتي وهيأت أطفالي ، وودعت صحبتي ، وقفلنا راجعين صوب آثنز ، قاصدين لانكستر للتوقف عند متجر "مايار" الكبير للتبضع والشراء ..

لاشك أن أسواق أمريكا إذ ذاك كانت جزءًا من نزهتنا تلك السنوات ، إذ لم نكن نرى في ديارنا شبيها لها في حجمها الضخم .. لم تكن كلمات كـ " جاينت " و " هايبر " تصطف ضمن قائمة التسوق في ديارنا ، لقد اكتشفناها هناك .. لكنها ما لبثت أن استقبلتنا في الديار عندما رجعنا إليها .. ألا ما أسهل انتقال الأنظمة في عصر العولمة !!
ما إن وصلنا حتى تحفز الصغار لخوض غمار "مايار" والغوص في لجته . ليس الشأن عندهم كما عندنا : أن لا "مايار" في ديارنا السعودية ، فأطفالنا صغار السن قد أفاقت خبرتهم ووعت تجربتهم في آثنز فقط . وإنما الشأن أن آثنز مدينة صغيرة جدا ، لا تضم سوى قدرا يسيرا جدا من الأسواق في ذلك الحين . تكاد تكون مدينة جامعية وحسب ، وهي مكان مناسب للدراسة والدراسة فقط .. ربما تغير وضعها الآن !
أثناء تسوقنا في "مايار" علا صوت المكبر معلنا أن عاصفة رعدية ستلمّ بالمنطقة . وأن على المتسوقين أن يأخذوا حذرهم ، وأن يعودوا إلى بيوتهم إو إلى ديارهم إن أمكنهم ، أو البقاء في "مايار" أو في مكان آمن حتى تنتهي العاصفة ..
عجّلنا تسوّقنا ، ولم نشأ أن نظل محبوسين في السوق حتى انتهاء العاصفة في وقت متأخر ، فكان لابد أن نيمم صوب مدينتا لنصل قبل العاصفة أو نتجاوز محلها على أقل تقدير . كان النهار في ساعاته الأخيرة واليوم يتأهب ليخلع رداء النور عن عاتقه ليحل الظلام ويحين المساء .. وللمساء ألف حكاية وحكاية !!
.....
....
حثنا أبو عبدالله لنستعجل ونترك ما بأيدينا ، وكم هو الأمر عسير على الأطفال ، فحوسبنا
ثم هرعنا إلى السيارة وكززنا مشترياتنا اليسيرة فيها سريعا، فانطلقنا إلى أثنز .



وفي أول الطريق كنا نتحادث عن إمعان الأمريكان في التحذير من أحوال الطقس ، وربما كنا نفكر في مبالغتهم في التحوط والتحذير . كانت السماء آخذة في التزيي بأنواع من السحب حتى اكتظت أرديتها واكتمل كساؤها صفيقا ثقيلا داكنا ، وبدأت تزمجر !

وميض البرق وهزيم الرعود خلفية اعتدناها لأحداث الأيام هناك ، فلم يكن ثمة ما يخيف أو يقلق . وإن آمن مكان للناس في الشوارع عند العواصف الرعدية هي سياراتهم .. فلا مسوّغ للخوف أو الرعب حتى هذه اللحظة ..

وفي الطريق من لانكستر إلى آثنز كانت ظلمة الليل توغل في مسائنا ..
في طريق لانكستر إلى آثنز تزداد ظلمة الليل ظلمة وتشتد حلكة السماء إذ توشحت بالمعصِرات الثقال ..
وإذ يحاصر الطريق جبال شاهقة سوداء ..
ظلمات ثلاث ، بعضها فوق بعض ، قد أطبقت علينا وطوقتنا .. في طريق لانكستر !
كانت السماء تزمجر والظلمة تشتد ، فعمدنا إلى شريط لإمام الحرم ففتحناه ليقرأ علينا سورة من القرآن تطمئن بها قلوبنا .. وتهدأ أنفسنا ..
ويعلو هزيم الرعد ، ويشتد برقه ، وتصب السماء ماءها شديد الهطول . ويشتد الهطول مع كل ومضة وزمجرة ، وتتوالى الصواعق الرعدية صاعقة إثر أخرى ، هنا أيقنا أن الوضع على الطريق السريع جد خطير ..
كان الطريق زلقا ، وكانت السيارات تسير على مهل شديد ، حتى كانت تسير الواحدة إثر الأخرى بحذر وبطء .. وخوف وفزع وما شئت من حال حين ينعدم أمنك ويحيط بك الخطر ..
كان الطريق كحقل ألغام ومتفجرات ، صوت لم آشهد مثله في حياتي ، والجبال على طرف الطريق تضيء قممه جدا عند الصاعقة حين تمتد من الغيوم إلى الأرض ، شاخصة طولية كخناجر عملاقة مضيئة وغاضبة . ثم يعود الطريق حالك السواد لا نرى منه سوى أنوار خافتة للسيارات أمامنا وخلفنا ، تظهر وتتضاءل بحسب كمية الأمطار المتدفقة من السماء ..
كانت السماء تشقق ذات اليمين وذات الشمال ، وذات الجهتين أحيانا تباعا وعلى وتيرة متلاحقة ، لا تمهلنا العاصفة فنهدأ ! ولا تتأخر عنا فنذوق طعم الطمأنينة برهة ! بل أننا شعرنا أن برقا قد حل فوقنا تماما وهز سيارتنا . ربنا رحماك ولطفك !
إنه الفزع والخوف .. إنه اللجوء إلى ركن الله الشديد .. إنه تسليم الأمر إليه .. والاستغفار له .. ورجاء رحمته .. وقوته وحفظه وحمايته .. وصوت إمام الحرم يتلو آيات الله .. تلملم فزع القلوب ، ومشاعرها النافرة المتجهة إلى الله والخوف من سطوته لتحيطها برجاء عفوه ومغفرته واستحضار قرب إجابته ، وعظيم رحمته التي تسبق غضبه ..
كان الطريق إلى آثنز مسرح ألغام متفجرة ..
وكان الدعاء يارب يارب ..
والصغار صامتون !!

عند أقرب مخرج .. خرجنا إلى طريق محلي فالمضي كان أمرا تستحيل معه الطمأنينة .. وتحت مظلة محطة البنزين تظلّلنا وعدد من السيارات ، ثم نزلنا إلى البقالة القريبة من محطة البنزين إلا أن سيارات الأمن منعت وقوفنا قريبا من المحطة ، خوفَ وجودنا قرب مواد قابلة للاشتعال في مثل هذا الظرف الخطير ..
.عندها قاد أبو عبد الله بنا السيارة إلى مكان آمن فمكثنا فيها حتى حين ..
.. هنالك شعرنا كثيرا بالاطمئنان بعد الفزع ، وانتظرنا حتى هدأت العاصفة شيئا معقولا ،
ثم أكملنا طريقنا إلى بيتنا في آثنز ، وصلناه وكأننا وصلنا إلى بر الأمان بعد لجة المحيط المتلاطم ، أو كأن يدا انتشلتنا من ساحة المعركة الرهيبة إلى مكان بعيد دافئٍ آمنٍ مطمئن ..
ما أروع الأمن والطمأنينة !
والحمد لله كثيرا ..

السبت، ٢٨ فبراير ٢٠٠٩

دِيتْرُوْيت وَرْشَةُ سَيّارَاتِكُم

وضاحيتها .. ديربورن العربية !
1416هـ - 1417هـ
1995م - 1996م

تعلن شركات صناعة السيارات الأميركية إجراءات عديدة للتخفيف من الخسائر التي تتكبدها بسبب الأزمة المالية العالمية ،
في وقت تتزايد فيه الضغوط لاتخاذ إجراءات عاجلة من أجل إنقاذ هذه الشركات التي يتهددها الإفلاس.

إن الحديث عن ديترويت هو حديث عن مدينة لا تخص الأمريكان وحدهم ؛ ولذا حين تتناقل وكالات الأنباء أن أكبر شركات السيارات - وأهمها تتوطن ديترويت - قريبة من إعلان إفلاسها , فإننا نعلم جيدا ما تنتجه هذه الشركات وتأثير ذلك في واقعنا .

ديترويت هي كبرى مدن ولاية ميتشيغان الأمريكية الواقعة شمال شرق الولايات المتحدة الأمريكية . تعرف المدينة بصناعة السيارات ، وتسمى باسم "Motor City" أي مدينة المحركات بسبب ذلك .

في ديربورن إحدى ضواحي حاضرة ديترويت تشعر أنك في بلد عربي , فربما تجد أمامك اليمني والعراقي , ثم تلتفت فترى اللبناني أو الفلسطيني .. إذ تقدر نسبة العرب الأمريكان فيها بـ 30% أغلبهم من لبنان وفقا للويكيبيديا, وفي نسخته العربية أنها " أكبر المدن الأمريكية للتواجد العربي - الأمريكي إلى درجة أن عناوين أسماء المحلات التجارية فيها - حتى لو كانت ذات ملكية غير عربية - لا تخلو من اللغة العربية بشكل يوحي لك أنك في مدينة عربية ولست في الولايات المتحدة".

ويبدو في السنوات الأخيرة أنها تشهد حضورا واسعا للشيعة . فقد افتتح فيها ما يسمى بالمركز الإسلامي في أمريكا , والذي دعمه بقوة الرئيس السابق جورج دبليو بوش , ولا غرابة في ذلك إذ إن المركز يمثل طائفة الشيعة التي يدعمها بوش , يؤمهم حسن غزويني لبناني الأصل، وهو مستشار الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش في الشؤون الإسلامية إلى جانب أنه من الأشخاص المقربين في الجالية الإسلامية إلى الرئيس بوش حسب ويكيبيديا .

في إحدى زياراتي إلى ديربورن دهشت وأنا عند الإشارة الضوئية في تقاطع طريق عام لمنظر رجل قد ارتدى البشت العربي بلباسٍ على الطريقة العراقية فيما بدا لي , يتهادى به بشكل اعتيادي كأنما يمشي في أحد شوارع بغداد أو الكويت أو الرياض . إن رجلا عربيا في مدينتنا التي نسكن فيها لبس الثوب يوما وخرج به إلى البقالة الصغيرة المجاورة , فسأله أحدهم أهذا لباس الهلاوين الخاص بك ؟!!!
وأن توجد الجالية العربية فهذا أمر مألوف في مدن أمريكية متعددة . ولكن أن تراهم أينما ذهبت في مدينة وبلباسهم التقليدبي بأثقل أعيرته , فهذا يعطيك الدلالة القوية على أن تلك الجالية تركيبة أساسية وعتيدة في هذه المدينة .

إنّ من أبرز أسباب وجود الإخوة اليمنيين واللبنانيين وغيرهم من العرب هو أنهم يمثّلون اليد العاملة في مصانع السيارات ؛ حيث تعد ديترويت هي موطن كل من الشركات : فورد وكرايسلر وجنرال موتورز . وديربورن بالتحديد هي موطن هنري فورد مؤسس شركة فورد موتور وأب تقنية خطوط التجميع . وإنك إن دخلت مسجد ديربورن يوم الجمعة تشعر أنك في إحدى الدول الإسلامية اكتظاظا بالمصلين .

زرت المدينة الأمريكية " العربية " ديربورن ثلاث مرات , إحداها كانت بعد رحلة إلى مدينة شيكاغو , وأخرى في طريق العودة من نياغرا فولز , إذ هي قريبة منها جدا حيث تجاور ديترويت مدينة ويندسور بأونتاريو كندا . وأما الزيارة الأخيرة فقد كانت ضمن رحلة طويلة طوّفنا فيها إلى الجنوب إلى ولاية تينيسسي حيث جبال الدخان ثم إلى مدينة لويفييل ومنها عرّجنا شمالا إلى ولاية ميتشغان ؛ فمررنا بمدينة كلامازو , ثم زرنا إيست لانسنق ثم ديترويت وضاحيتها ديربون وزرنا في كل منها أسرا صديقة .

لم تكن ديربورن تبتعد عن مكان إقامتنا كثيرا , وقد كانت زيارتنا إليها أشبه ما تكون زيارةً تموينية , حيث توجد البقالات العربية , والتي يمكن أن نجد فيها اللحوم الحلال والخبز العربي مرورا بأجبان الكرافت والقشطة وغيرها من المنتوجات التي اعتدناها في أسواقنا العربية ولم نجدها في البقالات الأمريكية .

ولا يمكن أن أخفي الحنين إلى المذاقات الشامية حيث تتضمن المدينة عددا من المطاعم العربية ومحلات الحلويات الشرقية , فكنا إذ ذاك ننتهز الفرصة لتناول الوجبة فيها أو التموين منها .

ومع ذلك الحضور العربي القوي حول ديترويت تجد أنها مدينة لا تختلف عن نمط المدن الأمريكية الكبرى , فمركز المدينة " الداون تاون" , يعج بالحركة والناس . حتى إذا ما غادر النهار وأقبل الليل وجدته ساكنا , لا ترى فيه سوى طرقا قد شقت سبيلها بين أبنية ممتدة الارتفاع شامخة بصمت مطبق , والمكان حولك ساكت هادئ . لا يتحدث في تلك الساعات الباردة في أول الليل من الشتاء إلا منافذ تصريف المياه .. حيث ترسل أبخرة المياه الساخنة فتفصح عن أبخرة كثيفة متصاعدة حين تلتقي والهواء البارد في وسط إسفلت الطرقات .. منظرٌ يتكرر كثيرا في إعلام ألعاب الفيديو والرسوم المتحركة وغيره ,

هنا تشعر بالفعل أنك في المشهد الأمريكي .



من أطرف وأغرب المواقف التي واجهتنا وأفزعتنا في إحدى زياراتنا , وربما كونت لدي انطباعا غير جيد عن المدينة هو ما حدث لنا في سَحَر الليلة التي وصلنا فيها من بافلو مدينة شلالات نياغرا إلى ديترويت , الطرافة والغرابة والفزع والانطباع السيء مزيجا تكوّن عند هذا الموقف الغريب الذي سأتركه للتدوينة القادمة ..

دمتم في إيمانٍ وسلامة ..

الأحد، ١ فبراير ٢٠٠٩

بتسبيرغ

تلُّ السناجب .. حِلَّةُ* اليهود !
14218 - 1420هـ
1998 -1999 م


هدوءٌ وتعقيد .. كلمتان تلخّصان انطباعي عن مدينة بتسبيرغ ..
سكونها , وتعقيد تركيبها العِرقي والجغرافي والعمراني .

يخترق مدينة بتسبيرغ ثلاثة أذرع من الأنهار : نهري آليقيني وموننقالا , ومرْجهما** المكوّن بعد ذلك نهر أوهايو ..
ربما كانت هذه الأذرع الثلاثة سببا غير مباشر في تسميتها بالمدينة ذات الجسور The City of Bridges " فهي تضم 446 جسرا .
كما تسمى مدينة الفولاذ لمكانتها كقاعدة لتصنيع الفولاذ في البلاد .
بتسبيرغ ثاني أكبر مدن ولاية بنسلفانيا الأمريكية تضم مزيجا عرقيا متنوعا . وتتسم كثيرٌ من نواحيها بطابع البلدة القديمة , في مظهرٍ يرتبط بالعرق الذي ينتسب إليها ساكنو كل منطقة ؛ لذا كثيرا ما يميز عمرانها الأسلوب الألماني ببيوته المضرّبة بالأخشاب السوداء . ولا عجب إذ النسبة الكبرى في التركيبة السكانية يمثلها ذوو الأصول الألمانية .. ..
أما منطقة وسط المدينة " الداون تاون " وما يسمونه منطقة المثلث الذهبي the Golden Triangle فلها طراز آخر .. هو طراز المدن العصرية الأمريكية , إذ يتراص عدد كبير من ناطحات السحاب العملاقة في رقعة المثلث ..
ولماذا سمي بالمثلث ؟
لعل الجواب هو : لأنه يقع عند ملتقى النهرين أما وصفه بالذهبي , فلم أقف على سبب تسميته بذلك .
قبل أن يستقر بي المقام في إحدى ضواحي بتسبيرغ تكررت زيارتي إليها , وفي كل مرة كنت أجد فيها ملامح المدينة الأوروبية بطراز أبنيتها القديمة , وهدوئها الجاثم بثقله في ساعات الليل والنهار ..
بتسبيرغ مدينة أمريكية ذات طابع خاص , هي مع هدوئها تفاجئك بما لا تفاجئك به أي مدينة أميركية أخرى , في حدود ما زرت منها على أقل تقدير ..
وذلك للداخلين إليها من جهتها الجنوبية الغربية وبعد مغيب الشمس , إذ ما إن تصل إلى مشارفها حتى يستقبلك نفق طويل تحت جبل مرتفع كالحجاب يستر وسط مدينة بتسبيرغ تماما , فلا ترى منه شيئا , فتظن إذ ذاك أنها مدينة خالية من المعالم غير الاعتيادية .

إن الطريق إلى وسط المدينة قبل دخول النفق كمثل أي طريق سريع , ولكن ما إن تشق دربه الضيق وتمر بجدرانه الصماء حتى يتراءى لك من فتحته البعيدة بريق غير اعتيادي , ثم ما تلبث حين تخرج من فوهة النفق أن تكون في أحضان مكان آخر تماما .. أنك ستكون إذ ذاك أمام منطقة الأنهار ثلاثة . . وتكاد تنكبُّ عليك أسرابٌ من ناطحات السحاب شاخصة فارعة قد تكوّدت وتكوّمت*** كأنما تلوذ الواحدة منها بالأخرى , وتزينت بكل ما لديها من حلي الإضاءة الكهربائية فانعكست أنوارها المنسابة ببهدوء على أسطح الأنهار لتتلألأ ويزداد فوق ذلك بريق المكان ووهجه . إن هذا المشهد ليوحي إليك بأنك أمام عرس لا تنقطع أفراحه كل عشية " بتسبورغية "..
مشهدٌ مبهر ! لا تمل إذ تقطن المدينة المرور عبر النفق لترى هذا المنظر المدني البديع , وسبحان من أبدع وصوّر , وخلق الإنسان فعلمه ما لم يعلم ..

أما بعد الإقامة , فاكتشاف بتسبيرغ يحتاج إلى وقت طويل . لا شك أن أكثر مواقعها استثارة للاسكتشاف هو تل السناجب Squirrel Hill
فما سكويرل هِل هذا ؟
إن تل السناجب في بتسبيرغ هو حي يسكنه اليهود يقع شرق المدينة , يقيم فيه 33% من يهود المدينة , يمثلون نصف سكان الحي تقريبا , ولذا تجد فيه المطاعم والمدارس اليهودية الخاصة , كما يضم مركزا اجتماعيا لليهود يقيمون فيه أعيادهم ويحيون تراثهم وقضاياهم .

قد كانت لنا زيارة خاطفة إلى الحي . ولم نكن نخطئ أشكال سكانه المميزة جدا بألبسة اليهود وطريقتهم الخاصة في تصفيف شعورهم صغارا وكبارا , أو كما يسمونة البايوت أو البايوس ..
ولشارع حي تل السناجب أسلوب وطابع حياة لحظنا اختلافه شيئا ما عن المناطق الأخرى , لقد بدت تلك المنطقة تماما كأي منطقة لأقلية تختلف عن عموم المدينة .

وبعيدا عن يهود بتسبيرغ , قد لحظت أنه بالرغم من أن اليهود لهم نفوذ إعلامي واقتصادي في الولايات المتحدة الأمريكية إلا إن هذا النفوذ المسخّر لتلميع صورة اليهود وخدمة قضاياهم لم يفلح فيما بدا لي في طمس صورة اليهودي التي كانت تسيطر على الأوربيين فترة من الزمن , والتي يعكس بعضها رواية وليم شكسبير : تاجر البندقية ..
ومثالا لذلك أنني رأيت في طريق الجامعة واحدا من "دكاترتها " وهو يهودي ممن يتكلف تجميل الوجه اليهودي , يقمّ طريقها مع العمال في مشهد غريب لافت للنظر . ومع هذا المنظر الذي يشي بالتواضع والخدمة كانت تشير إليه إحدى الأمريكيات مكتفية بوصفه بـ " ذلك الرجل اليهودي " لقد كان ذلك النعت كافيا لديها للإشارة إليه بامتعاض ..
تلك الجامعة الكاثوليكية الصغيرة قد ضمت مركزا للهولوكوست يتم دعمه بقوة , وقد غذي في الأيام القليلة الماضية بـ 750 ألف دولار **** . إنك حينئذ لن تعجب حين تجد تعاطفا رسميا مع اليهود وقضاياهم ؛ إن المال والإعلام يفعلان ما لا تفعله الضمائر الحية حين تتضح الحقائق ويرتسم الواقع بالقعود عن العمل , فليت أسطري متى تخدم أموالُنا قضايانا ؟


ــــــــــ
* الحِلَّةُ : منزل القوم , وجماعة البيوت , ومجتمع الناس " الوسيط " , وهو من عاميِّنا الفصيح .
** مَرَج : الشيء مرْجا خلطه . وفي التنزيل " مرج البحرين يلتقيان " "الوسيط "
*** كَوَّدَ الشيء : جمعه وجعله كُثبة واحدة " الوسيط " وهو من عاميِّنا الفصيح ايضا ..
*** كوم الشيء : جمعه وألقى بعضه على بعض " الوسيط "
**** في ديسمبر من العام المنصرم 2008م , http://www.post-gazette.com/pg/08337/932160-100.stm

الأحد، ٢٧ يوليو ٢٠٠٨

جبال الدخان 5

تشيروكي .. والبحر المفقود

عَلَى هَامِشِ حَيَاةِ القَارّةِ الأَمْرِيكِيّةِ يَعِيْشُ أَصْحَابِهَا الأَصْلِيُّون ,
وَيُدَثّرُونَ بسُلْطَانِ مُحْتَلِّهَا كَمَا دُثّرُ البَحْرُ المَفقُودُ بمَغَارَةٍ سَوْدَاءَ ..

لسكان القارة الأمريكية الأصليين تاريخ في منطقة جبال الدخان في غرب ولاية نورث كارولاينا ففيها تسكن إحدى قبائل الهنود الحمر المتحضرة " تشيروكي " منذ آلاف السنين .

أين التشيروكيون اليوم ؟
منذ منتصف القرن السابع عشر الميلادي بدأ التواصل بين التشيروكيين والأوروبيين من خلال التجارة وتبادل المنافع وشيئا فشيئا انحسرت الحواجز بين القبيلة الهندية والمحتل الأبيض . ولم يبق من تاريخ تشيروكي المنبسط على منطقة غرب كارولاينا الشمالية إلا معالم سياحية.

القرية الهندية لتشيروكي هي إحدى هذه المعالم عند جبال الدخان , وقد اعتبرنا وجودها القريب فرصة جيدة للتعرف على ثقافة الهنود الحمر , سكان أمريكا الأصليين .
كانت تتطلب الزيارة للقرية الهندية الخروج في وقت مبكر ومجاوزة جبال الدخان في ولاية تينيسسي إلى جهتها الأخرى في ولاية نورث كارولاينا . وهناك تستقر في انزواء وسكينة قرية سياحية وسط الغابة تئن أنين اللهب المتضائل تحت طبقات الرماد . ثقافة منطفئة في جوف ثقافة متوهجة , ومع ذلك تجد الحماسة في وجوه العاملين والمرشدين فيها من أبناء تشيروكي يتحدّثون عنها بفخر شديد .

يتقدم التطواف في القرية كلمة تعريفية يلقيها أحدهم عند جمهرة من الزوّار متحلقين على مقاعد أعدّت لهذا الغرض . ثم تتناثر محطات تبين حياة التشيروكيين ونماذج حقيقية لمنازلهم ومجالسهم وحديثا عن زعمائهم , وعروضا عملية لفنونهم اليدوية التي يجيدونها كصناعة السلال , وصناعة القوارب من الجذوع التي يحرقونها بطريقة خاصة فيضل الدخان يتصاعد منها مدة زمنية طويلة إلى أن تكون جاهزة لصنعها قوارب .

كانت منازل الهنود الحمر بدائية بسيطة الأدوات منخفضة الأسقف , قليلة المتاع , بنيت من الخشب وتتكون من غرفة واحدة , بل هي في حقيقتها غرفة واحدة .. إما للنوم , فترى عددا من الأسرة بدائية الصنع فيها , أو لطهي الطعام فتجد مواقد سوداء يتراكم تحتها الحطب , أو مكان الاجتماع بزعيم القبيلة .. وبين هذه البيوتات الصغيرة طرقات من التراب .

وكما ترى في وجوه التشيروكيين الحماسة لتاريخ مضى ترى فيها كذلك مسحة الأسى قد خلّفتها يد الأمريكي الأبيض التي تتقن الاحتلال باحتراف . وخير حال يمكن أن توصف به تلك الاحترافية , هي ما قامت به ضيفتنا الزائرة في مادة " التدريس في مجتمع متعدد الثقافات " عندما كنتُ على مقاعد الدراسة . لقد كانت أستاذة أمريكية من أصول أفريقية وتتقن جيدا في المقابل فن الإحساس بالظلم ..
وفي ثنايا محاضرتها التي ألقتها ونحن جالسات معها في حلقة دائرية توقفت فجأة عن الحديث , ونظرت للجالسة عن يمينها وقالت بحزم وإصرار قومي عن مكانك .. أريد أن أجلس عليه لقد اكتشفته وهو لي ..
كلنا استنكرنا ذلك .. ثم أدركنا الرسالة التي أرادت توصيلها .. فناقشنا ذلك . وأفراد الأمريكيين في الجملة لديهم جانب من الإنصاف والتفكير الناقد .

في طريق العودة من القرية الهندية مررنا بمحل لبيع المصنوعات التقليدية للتشيروكيين . تجولنا فيه سريعا ثم عدنا لنستعد لآخر محطاتنا في رحلة جبال الدخان :
البحر المفقود The Lost Sea ...
متى فقد ؟ وأين هو الآن ..
سيأتيكم الخبر عما قريب ..
وأخرى هي الأخيرة إن شاء الله تعالى ..

السبت، ١٩ يوليو ٢٠٠٨

جبال الدخان 4

سمكٌ مشويٌّ و ... دب !

قالت :
إِنَّ وَاحِدًا مِنْ دِبَبَةِ الغَابَةِ مُتَوَجِّهٌ إِلَيْكُمْ .. إِنَّهُ كَبِيْرٌ جِدًّا !



في المنتزه الوطني لجبال الدخان في الولايات المتحدة الأمريكية تتناثر المناطق المهيّأة للزوّار . فيجد السائح بين كل مسافة وأخرى عددا من المقاعد تحيط بطاولتها الخشبية , وفي جوارها منطقة للشواء .. إنها تغري المارّ أن يخصص وقتا للجلوس وتناول الغداء بين جذوع الأشجار العملاقة وتحت أغصانها المتشابكة .وبالفعل , صرنا نتحين الوقت الذي يمكننا فيه أن نشتري ما نشويه لننعم بوجبة هنيئة مريئة في أحضان الطبيعة الغناء . وعزمنا مرات عديدة غير أن شيئا ما يعيقنا عن تنفيذ ما نريد .

وجاء اليوم الموعود فأخذنا استعدادنا وتوجهنا إلى أقرب بقالة , وابتعنا منها ما نحتاجه لنشوي , وفي مقدمة ذلك كله مقدارٌ من السمك الطازج الذي ستنعشنا رائحة شوائه و سيملأ طعمه حاسة التذوّق منا , ثم ستمتلئ بطوننا بأكله . كل ذلك ممتزج بنعيم الجلوس بين الأعشاب الخضراء والأغصان الملتفة , وعند خرير مياه النهر وزقزقة العصافير .. وبين تأمل وبهجة , وعند سكون وحديث ..

وبعد جولة سريعة ترددنا فيها مرارا حول المكان المناسب للجلوس وجدنا مكانا بديع الأركان , عليل النسمات , محتشما , بعيدا عن صخب شبيبةٍ أمريكية أو تبذّل أسرة من أسرها , لقد وجدنا المكان المناسب بعد عدة خيارات تركناها للصخب أو التبذل المذكور ...
أنخنا رحال التجوال , ونصبنا خيام السرور إذ وجدنا الزاوية المناسبة وسعينا إلى ترتيب حاجاتنا .ثم بادرنا إلى تهيئة جمر الشواء , وتركناه ليتوقد بينا كنا نتحلّق حول " زمزمتي " الشاي والقهوة وما بين " بيالة " شاي و"فنجان" قهوة , كعادة الجلسة السعودية التي لا تغيب أينما كان السعودي ..

وفور احمرار الجمر هب أبو عبدالله ليتولى الشواء , وهببتُ أيضا لأساعده .. ولأقطع وقتينا بالحديث. وضعنا سمكاتنا الموعودة , وبدأت الأدخنة تتهادى في صعود وخيلاء , وبدأت الرائحة الزكية تملأ منا كل نفَس , وبتنا نعد اللحظات الأخيرة للظفر بوجبة الشواء في أحضان الغابة بعد طول ترقب وانتظار .
وبينما نحن كذلك , والصغار يلعبون ويستكشفون .. إذ بامرأة من بعيد تتحدّر من الطريق الجبلي النازل تغذّ السير وتسرع كأنها تقصد مكانا ما أو أحدا ما .. واقتربت ثم اقتربت فلم نشك عند ذاك في أنها تقصدنا نحن .. حتى إذا ما بقي بيننا وبينها بضعة أمتار صاحت بصوت عالي تتهدّج أنفاسها كأنما يلحقها ذئبٌ أو دب ! :
Bear , Bear
كذبت سمعي وكذب أبو عبد الله سمعه , فتبادلنا النظر والسؤال :
Bear ?!
قالت :
Yes, there is a bear
وأتمت بأن الوقت يتقدم نحو المساء , وهو الوقت الذي تبدأ دببة الغابة في الانتشار , لذا على الزوار عادة أن يغادروا الغابة في هذا الوقت حسب تعليمات المنتزه ..وذكرت لنا أنها بالفعل قد رأَت دُبَّا يتجه نحو مكاننا وإياها ... وإنه لكبيرٌ جدا ..
لم يكن الأمر ليسمح لنا أن نتفرّس صدقها من توهمها , فالمسألة فيها دب الغابة , والسلامة خير من الندامة ولئن نترك شواءنا الذي كنا نترقبه أياما وجبة لنا في هذا المكان الجميل , خير من أن نصبح أنفسنا وجبة جميلة في جوف دب الغابة الكبير جدا ..
فما العمل ؟
العمل هو أن أجمع عيالي وسفرتي وزمازم الشاي والقهوة وما يلحقهما بسرعة البرق , ثم أكتنز وإياهم سريعا في سيارتنا , فنحن أثمَن من أن نكون وجبة شهية للدب !
أما أبو عبدالله فأشار لنا بأن لانغادر السيارة وأن نحكم إغلاقها , وآثر هو أن ينتظر قطعة السمك لتستوي قليلا فلعلنا ندرك شيئا مما تمنته أنفسنا من السمك المشوي , فظلّ يقلّبها على الجمر المتوقّد , ويتقلب هو الآخر فوق جمر الانتظار حتى تستوي . وعين منه على السمكة وأخرى نحو جهة الدب التي أشارت إليها تلك المرأة التي ولت هاربة , فلم نر بعد ذلك سوى غبار قدميها .. بعد تحذيرنا .
ثم مرت سيارة الأمن تؤكد مغادرتنا , كإجراء روتيني أو كإنذار بعد رؤية الدب عينه , ولا أدري حقيقة أيهما كان !
لبثنا في السيارة وقد أحكمنا إغلاقها دقائق يسيرة جدا حتى انتزع أبو عبدالله قطعة السمك بسرعة خاطفة من فوق قضبان الشواء التي تمسكت بأجزاء كبيرة من السمك المشوي , كأنما كانت على اتفاق مع دب الغابة لتكيد بنا وتبتزّ سمكتنا , أولكأنهما معا قد اتفقا والمرأة على تنغيص سعادتنا . بعد ذلك سعى سعيا حثيثا نحو السيارة لنفتحها له فتتلقف ما تبقى من قطع السمك المشوي , وليأخذ هو مقعده ويدير مفتاح السيارة فننفذ بجلودنا . إلى خارج المنتزه ..

ينتثر ما يقدر بـ 500 - 600 دب أسود في المنتزه الوطني لجبال الدخان , وبمعدل دب واحد لكل ميل مربع تقريبا , لذلك لم نستبعد أن يكون الدب منا غير بعيد . ولم نفكّر إذ ذاك أن نستدير برؤوسنا لنراه على الهواء مباشرة , أو نلتقط له صورة تاريخية تجمعنا به بطبيعة الحال , وإنما كان همنا الفرار والخروج من الغابة وقد أوشكت ظلمة المساء أن تتوغل فيها !
لا بأس !!
أمّلنا طويلا في جلسة الشواء غير أن الدب أو المرأة - لا أدري أيهما السبب ! – قد أبيا إلا أن لا ننعم بها ..
وحسبنا الله ونعم الوكيل ..
ويبدو أن مقطعا أخيرا من جبال الدخان قد تبقى !

الثلاثاء، ٨ يوليو ٢٠٠٨

جبال الدخان 3


حينما تتضمن الرقعة الصغيرة كثيرا من الأحداث السياحية ,
أتذكّر جبال الدخان ..

لم نكتف في جولتنا في جبال الدخان بالجلوس عند النهر , أو التجوّل في طرقاتها أو التحليق فوقها ..
بل رغبنا فيما هو أكثر من ذلك ..

عزمنا أمرنا ذات نهار أن نتخذ الطريق إلى أحد الشلالات البديعة في أعماق الغابة الجبلية , وكان الوصول إليها يتطلب المشي على الأقدام صعودا على الجبل بمسافة كيلين تقريبا ..

عقدنا العزم ووشددنا الهمة وقلنا بسم الله , يتقدمنا الصغار يتقافزون من الفرحة , إذ تحلق في أذهانهم صورة الطفل الكارتوني في جزيرة النور وغيرها وهو يتنزه في الغابة تحنو عليه الغزالة تارة وتلاعبه سناجبها تارة أخرى . لقد تجسّدت الأمنيات أمامهم واقعا يعيشونه بأنفسهم وها هي الغابة بكل مكوناتها المدهشة تداعب أمنياتهم وأحلامهم الصغيرة التي عاشوها عند القصة الكارتونية فانقلبوا أبطال الغابة !!

كنا نغذ السير أول صعودنا والطاقة منا مسترسلة كريمة , وما أن أتممنا الكيل الأول حتى بدأت طاقتنا تشح بالعطاء , وتستنكر الطلب , إذ إنها لم تعتد منا مثل هذا الاستدعاء , ولم نعودها مثل هذا الاستهلاك . فبات كرمها في العادة محدود بحدود ضيقة لا يجاوز الحركة الخفيفة في أرجاء منزل أو مكتب أو إلى مسجد أو في حدود مركز تسوّق . وأصبحت منا كالحد الائتماني في الهواتف . وبدأت ترسل رسائل التنبيه تنذر بتجاوز الحد . فصرنا نستجمع القوة , ونستدعيها . وهممنا بأمر سوء فحدثتنا أنفسنا أن نلغي ما لأجله صعدنا الجبل وتكبدنا المشقة , غير أن داعي الشلال ودافعه كان أقوى من الوسوسة , فاستجمعنا قوانا وواصلنا سيرنا لنستكشف الشلال الموعود فنمتّع أبصارنا بمنظره الخلاب وسط الغابة ..

قليل من الصبر ساعدنا في الوصول إلى منطقة شلالات لوريل , وعندما تناهى إلى سمعنا من بعيد صوت خرير الماء دبت فينا الطاقة من جديد , كأنها هي الأخرى متشوقة لرؤية الشلال ..
وصلنا إلى قريب من أعلى الجبل حيث يختبئ بين أشجاره العظيمة شلالٌ بديع المنظر .. تحفه الصخور .. وتخفيه الجذوع العملاقة .

كانت مياه الشلال كأبيات الشعر تدبّج في مديح الغابة فتزيد على حسنها حسنا . وكانت كلحنٍ يبعثه طائر حزين أن ضل الرفاق وبقي وحيدا , فهو يسلي النفس , وهو ينادي ولا ينقطع , لعل روحا تجيب نداءه وتزيل وحشته ..

تأملنا وحيد الغابة .. الشلال مليا , وقلبنا نظرنا حوله إذ ينبثق وحيدا مستوحشا ثم هو ذاته بعد ذلك يشق الغابة بالأفراح والبهجة , وتعجبنا لجماله وسبحنا الله لبديع صنعه والتقطنا شيئا من ذكرياتنا في صندوق آلة التصوير المتحرك " الفيديو " . بعد ذلك تذكّرنا أن أمامنا مثل المسافة التي قطعناها عودة ..
لابأس ! فالنزول أهون من الصعود وإن كانت المسافة طويلة !

شددنا الهمة وقفلنا نزولا وأسرعنا كي لا يدركنا الظلام في الغابة , ثم تحاصرنا وحوشها ..
ومن بعيد وعند نهاية الطريق لاحت لنا السفاري واقفة مستكينة , وتهيأ لنا أنها كالقلقة المضطربة تنتظر سلامتنا وخروجنا من الغابة إذ تقف عند أعتابها .. عدنا إليها والشوق إليها وإلى مقعدها الوثير قد أخذ منا كل مأخذ , بعد أن أدركنا قيمة عجلاتها , وأدركنا عجز لياقتنا , وعلمنا أن سفارينا قد دللتنا فوق ما يجب , فحق الانتباه لذلك , وإلا كانت الصحة في خطر !!

في الشارع السياحي لفت أنظارنا مبنى غريب المنظر .. وقصدناه فإذا هو متحف للغرائب والعجائب ..
حوى هذا المتحف عددا كبيرا من الغرائب أولها : الرجل "الليزري" الذي يظهر أمامك على مكتبه فجأة فيحدثك برهة من الزمن ثم يختفي كأن لم يكن ثمة رجل !
لو رآه أحد من القرون الغابرة لولى مدبرا من الخوف , ولبصم بالعشرة على أنه رجل من الجان . لكننا لحسن حظنا لم نكن كذلك " الأحد " , ولسنا نعيش زمانه بل نعيش زمن تطويع الليزر ليقوم بالتسلية والعلاج والتجميل وغير ذلك .. فلم نولّ الأدبار أمام شبح الليزر الذي يبدو فجأة ثم يغيب فجأة , ولم يخف منه صغارنا بل وقفنا أمامه كما نقف أمام عصفور يحط ثم يطير ..

لقد حوى المتحف رسوم الخداع البصري , ومِزهرية صنعت بطريقة ما فتبد حين تدور كالشخصين المتقابلين يتكلمان أحدهما تلو الآخر , وأطول إنسان وأقصر إنسان , وبعض أساليب التعذيب , وعرضا لطريقة الإعدام بالكرسي الكهربائي المرعبة , وغير ذلك مما يثير العجب والاستغراب تارة أو الخوف تارة أخرى ..

ومن الشارع السياحي نفسه صعدنا العربات المعلقة التي تحمل في كل مرة فردين كالأرجوحة المعلقة وصعدنا الجبل مستمتعين بمناظر منطقة جبال الدخان الخلابة حتى وصلنا القمة حيث أتيح لنا منظرا عاما " بانوراميا " خلابا , ثم عدنا مرة أخرى لنهبط وأمامنا المنطقة الجميلة ..

يبدو أنه قد كان أمامنا الكثير لنصل إلى قصة دب الغابة ,
وستضرب القصة أطنابها في التدوينة القادمة بإذن الله ..

الأحد، ٢٢ يونيو ٢٠٠٨

جبال الدخان 2

1416هـ / 1996م












من أروع الصباحات
صبحٌ تستفتحه بالصلاة
وذكر الله
ثم تحلّق فوق أرضٍ
مشبعة الاخضرار ,
تنظر إليها
نظر السحابة السابحة
في الجو !



http://farm1.static.flickr.com/104/297868031_1e163b6225_m.jpg

كان صباحنا رائعا روعة الأرض المخملية التي نراها من جو السماء .. وقد أرسلت الشمس باكورة أشعتها تنتثر كخصلات الشعر الذهبي المسلسل .. تتدفق بغزارة وحيوية , فتدثّر صفحة الجبال المخضرّة بغلالة شفافة باهرة المنظر . لقد كان منظر سلسلة الجبال من طائرة عمودية في ساعات الصباح الباكرة جدا كالحلم الجميل الذي لا تود أن تستيقظ منه .

في رحلة جبال الدخان عاهدنا أنفسنا أن نبكّر برامج الرحلة في جميع أيامنا , فكان كذلك .. يبدأ عند الثامنة صباحا , وينتهي عند مثلها أو قبل ذلك في المساء .





كان موعدنا مع التحليق في بداية أيام الرحلة المعدودة .. وقد كانت تجربتي الأولى في الصعود إلى طائرة عمودية , تلك الطائرة التي احتوتنا فقط في صندوق زجاجي فأمامك السماء , وفوقك السماء وعلى جنبيك سماء , ومن أسفل منك ترى الأرض وأنت تتباعد عنها , فتحملك كما يحمل الطير رسالة أو طيرا صغيرا أو شيئا ما , فالشعور وأنت في طائرة عمودية هو أنك معلق بشيء يحملك ..

تحركت مروحة الطائرة العملاقة فوقنا , وباتت كالمعلاق يرفعنا شيئا فشيئا حتى ابتعدت الطائرة عن الأرض , وتصاغر أسفل منا الطريق السياحي ثم عرّجت على منطقة الجبال والغابات فأخذت تسرح وتمرح فوق أرجائها , كالفراشة تحلق في بستان لا تقف عند زهرة . وعرّجت أرواحنا في جانبٍ من ملكوت السماوات والأرض .

عند ذلكم شعرت أنني صغيرةٌ صغيرة أمام قمم هذه الجبال المزخرفة بالأشجار .. وأصغرُ أصغر حينما كانت الأرض تحتويها , وأصغر كثيرا حين تذكرت أن الكرة الأرضية ما هي إلا ذرة في الفضاء ..

يا إلهي كيف تقوى هذه النفس الصغيرة جدا أن تتنكب الطريق وتحيد عنه ؟! أي قوّة تمنعها البطش !

أخذت الطائرة دورتها , واكتفت بتحليقها . ثم عادت من حيث أتت , ونحن في صندوقها ما نزال في دهشة وحبور ! حتى إذا ما حطّت فوق أرض خضراء , عانقنا الأرض التي كنا نراها من بعيد عناق المتشوّق إلى اكتشاف الأرجاء ..


ثم كان الانطلاق مرة أخرى إلى دروب الجبل .. وحادينا من جهاز التسجيل في السفاري يحدو " ابن بلادي هالمغوار أعلِنها باسم الدينِ , بعون الله أشعلها نار في كل قرية ومدينِة " . لقد كان النشيد إذ ذاك كله لفلسطين والحماسة . على خلاف حداء الحادين الآن فقد تنوّعت موضوعاتهم فصار من الغريب أن تسمع النشيد الحماسي في مثل هكذا مواضع ..

لست أنسى تلك اللحظات , ونحن نلتف بالسفاري صعودا بين أشجار جبل الدخان .. تظللنا أغصانها وينعشنا نسيمها , وتسجد أعشابها وأزاهيرها على أطراف الطريق تسبّح الخالق و تذكّر المخلوق .. تذكّره إن كان له قلبٌ يقود عينيه وسمعه وشفتيه ... ولكن مثل هذه القلوب تعزّ أحيانا ..


كما كان النشيد يحدونا , كان منظر الجبال الفوقي الذي رأيناه صبح اليوم يحدوا سيرنا لاكتشاف غابات الجبل وما يختبئ تحت ديباجتها من كنوز .. فكانت الأنهار .. وكانت الأزهار .. وكانت الأحجار وكان نعيم الدنيا يذكّرنا نعيم الآخرة نسأل الله فضله.






وصلنا في مسيرنا إلى المنتزه الوطني الذي أُعِدّ للرحلات بالجلسات وزوايا الشواء وغير ذلك .. . توقفنا عند نهر طارف .. يسير يحاذي الطريق .. يتدفق في سرعة وهمّة لا يلوي* على شيء . ولا ينوي غير أن لا يتوقف .. يصطدم ببعض الأحجار ولا يتوقف ..
وترى هذه الأحجار إنما اعترضت طريقه لترسم لوحة من الجمال الباهر , لتكتب قصة الحياة , لتنشد أبياتا من الشعر ما قالها شاعر .. في منظرها والنهر المتدفق , وما حولهما أطرافه المعشوشبة وأشجار الغابة العتيدة , وبعض جذوعٍ ملقاة , قد تكاثرت فوقها النباتات والطفيليات بلون أخضر نضر جدا , في منظر ذلك كله تحار العين وينعقد اللسان فليس يقول سوى .. سبحانك ربي !
وفي موضع آخر حيث هيّئ النزول للزائرين جلسنا قريبا من النهر وصغارُنا . فمنهم من يقرأ سورة الرحمن , ومنهم ينشد النشيد " Subhan Allah .. glory be to Allah ", ومنهم من يطاول بقدمه صفحة النهر لينتعش بخميلته الباردة .. الوقت مضى عند النهر , وكأننا قضيناه في دقائق ! وللحديث عن جبال الدخان تتمة ,,
.............................
* مرّ لا يلوي على أحد : لا يقيم عليه ولا ينتظره ( الوسيط ) .

الاثنين، ١٦ يونيو ٢٠٠٨

جبال الدخان 1

جبال الدخان العظمى
The Great Smoky mountains
1416هـ / 1996م




حِينَمَا تحْتَضِنُكَ الطَّبِيْعَةُ
تهْمِسُ فيْ أُذُنَيْكَ هَمْسَ مُحِبْ ..
أَنْ أَلْقِ عَنْ قَلْبِكَ العَنَا
وَاطْرَحْ ضَجِيْجَ الأَلَمْ
وَاصْغِ إِلى تَغْرِيدِ عُصْفُوْر
وَهَدِيْرِ جَدْوَل
وَوَقعَةِ وَرَقَةِ خَرِيْف
تخْبِرْكَ أَلا هَمَّ فيْ الدُّنْيَا يَسْتَحِقُّ مُعَانَاتك ..
تحْكِي لَكَ قِصّةَ جَمَال
تَعِدُكَ جَنَّةَ خُلْد ..
تُقَرِّبُ لَكَ معنى ..
وَتَسْبِقُ خَيَالَك
فَالنَّعِيْمُ الموْعُوْدُ لا يخْطرُ عَلَى قَلْبِ بَشَر ..

النَّعِيْمُ وَأَنْت ..
كِلاكُمَا مَوْعُوْدٌ بِلِقَاء
قُمْ , دَعْ عَنْكَ وَعْثَاءَ السَّفَر
تَخَفّف مِنْ أَحْمَالِهِ ,
لا تُلْهِيَنّكَ بُنَيَّاتُ طَرِيْقِه
وَشَمِّرْ .. وَاتَّقِد
كَأَنَّهَا تَقُوْل :
لَسْتُ وَأنَا أتَبَاهَى بَأَجْمَلِ الحُلَل
إِلا أَقَلَّ مِنْ جَنَاحِ بَعُوْضَة !

...

اقترح بعض الأصحاب أن نسافر في إجازة ما بين الرُّبعين * إلى أورلاندو حيث عالم ديزني في ولاية فلوريدا. وفي الواقع أنني استكثرت أن أقطع مسافات شاسعة إلى الولاية المشرقة . هكذا يسمون فلوريدا ؛ حيث تشرق الشمس كثيرا هنالك .
الشمس في بلدي كريمة باذخة العطاء , وإنني من عطائها لمترعة .
والشواطيء ما أكثرها في بلدي ! ألست ابنة الشرقية ؟!

أما عالم ديزني أو Disney World , فلم تكن لدي القناعة الكافية أن أقطع له الغابات والجبال ومئات الأميال , أن أقطعها لأجل مدينة ألعاب ! ولا أؤمن بأن مكثا في جوفها ثلاثة أيام بلياليها لأجل التقلّب في اللعب أمرا مسوَّغا في تقديري على الأقل .
لم أحبّذ هذه الفكرة على الإطلاق , نحن مسؤولون عن أوقاتنا وأموالنا وأسماعنا وأبصارنا . ثم إنني - في العادة - إن ذهبت لتسلية الصغار إلى مدينة ألعاب , فإنني أذهب قريبا من نصف اليوم .. ثم أعود مصطكّة النفس متكدّرة الخاطر , وإن كنت معهم في ساعات اللعب في غمرة السرور والحبور ..
هو لهو دنيوي , قد يُسبِغُك ساعات تبتعد فيها عن روتينك القاتل , عن همومك الثقيلة , لكنه لا يضمن لك انشراحا , ولا يأمّن لك اطمئنانا بعد ذلك ..

وصلتنا هذه الدعوة الكريمة للمرافقة , غير أننا ضحّينا برفقةٍ نحبها للأصحاب , مقابل إيماننا بمبدأ .
غادَر أصحابُنا الديار , وألمّ بي بعد ذلك السقم , كأنني أفتقد محلهم . والحق يقال , إنهم كانوا لي كالأهل حيث لا أهل في الغربة , وكانوا كالصديق العتيق حيث تنفصل زمانا ومكانا عن كل صديق ..
وبقي من بقي منهم يكرِمني في فترة المرض , ويقيل عثرتي وأنا أم صغار ..
فجزى الله صديقتي " هيا " خير الجزاء .
ثم في يومنا التالي وبعد أن شُفيت سافرنا وعائلة الصديقة إلى شيكاغو ..


وفي موسم آخر قريب رغبنا تعويض رحلة أورلاندو الطويلة , فاخترنا السفر إلى جبال الدخان العظمى , فعزِمنا أَمْرنا , واتخذنا عدّتنا , وركِبنا " سفارينا " ** , ميممين صوب جبال الدخان ..
كان مساء معطرا بالرّاحة والأمل . يشدو فيه الصغار , أن قد عُتقنا من المدينة الصغيرة " آثنز " . اتجهنا نحو الجنوب إلى سينسيناتي .. وقبل أن نتوغل في طريقها وقفنا عند محطة استراحة فصلينا فرضنا , ثم مسكنا الطريق حتى وصلنا سينسيناتي وبتنا ليلتنا فيها .
في صباح اليوم التالي واصلنا الطريق إلى ولاية كنتاكي , ومنها إلى ولاية تينيسّي , فالجبال العظمى تمتد على الولايتين تينيسّي ونورث كارولاينا , لا دليل لنا ولا رفيق إلا خارطة الطريق .
إن خرائط الطرق في الولايات المتحدة الأمريكية لوحدها شهادة جودة , حيث تنطق هذه الخرائط بالدقة والإتقان الذَين وهبهما الله للأمريكيين . فإنك إن وجدت رقما في الخريطة , وجدت ما يطابقه لوحة ماثلة أمامك في الواقع في كل حين . وكل طريق وكل جادة وكل زقاق قد سمي باسمه ورسم برسمه ورُقّم برقمه , ثم لا تجد بعد ذلك شيئا يذكر من السقطات التي نواجهها في طرقات وخرائط أخر !!!!!!


وصلنا إلى جبال الدخان في وقت النهار , وكان علينا أن نختار أحد الفنادق المنتاثرة على جانبي الطريق الرئيس في هذا المعلم السياحي , وتمتد الحيرة حين تمتد الخيارات . وصَلْنا إلى قرارنا , واتخذنا مسكننا في فندق صغير على الطريق الرئيسية التي تضم أهم مرافق السياحة . وقد كان خيارنا طيبا ..
لا تبتئس ولا تحمل همّ النظافة في تلك الفنادق وإن لم تصل إلى فئة الخمسة نجوم ..
كان باب غرفتنا في الطابق الأول . يتم الدخول إليه مباشرة من خارج الفندق كعادة أغلب الموتيلات هنالك , وتتوسط الغرف مجمعا للبرك المفتوحة .
لم يكن لدينا سوى بضعة أيام للرحلة , فكان يجب أن نخطط لها جيدا . جئنا بالمطبوعات التي تنتثر فيها مرافق السياحة . واخترنا قائمة منها تناسبنا , على أن نبدأ فعاليات الرحلة في صباح الغد الباكر ..
اعتدنا أن نأخذ جولة عامة في كل منطقة قبل أن تبدأ رحلتنا التفصيلية فيها ..
لاشك أن جبال الدخان هي أكثر ما نحن متحفزون له .
نريد أن نعاين الخبر ..
لم سميت جبال الدخان ؟

سفارينا عنيدة قوية المِراس , غير أن الطريق في جبال الدخان قد حفظ لها جانبا من طاقتها التي أُعدت لتسلق الجبل , تلك المنطقة بجميل طريقها جعلت السفاري تتهادى كطفل صغير تائهٍ في غابةٍ ملتفة الأغصان , مسرورٍ بمفاجآتها غير آبهٍ بمخاطرها .

إن طريق الغابات طريق وارف الظلال , حنونٌ حنون ..
كانت الأشجار الطويلة تغطينا فنكاد لا نرى قرص الشمس طيلة الطريق , إلا قليلا من شُعاعها الذي يبحث بين الأغصان عن خط سقوط على أرض الغابة أو طريقها المزفلت , فتكون حينئذ صورة الجمال . بل الطريق المزفلت ذاته كان جميلا يلتف وينعطف يعلو وينخفض , محفوف بالأشجار السامقة .. ومزخرف بنباتاتها , ومؤطرٌ بأعشابها النظرة , تحسبها لنظارتها وجمالها ما خرجت إلى الطريق قط ! لكنها في واقع أمرها دوما مطّرحة على الطريق , تطؤها الأقدام ويلفها النسيم , نسيمُ الغابةِ البارد الرطيب .. هنا قد تعرفنا السر !

لا أدري كم سيستغرق الحديث عن رحلة جبال الدخان , ومتى سأصل إلى أكثر مواقفنا فيها إثارة ..
موقفنا مع دب الغابة المرعب ..
حسبي الآن أن أعِد بأن للحديث تتمة ,,

........................................
* حيث نظام الدراسة نظام ربعي .
** سيارة جي إم سي سفاري .

الأربعاء، ١١ يونيو ٢٠٠٨

رحلة واشنطن 2

بأبي هو وأمي !







اعْتَدْنَا فِيْ العَوَاصِمِ العَرَبِيّةِ أَنْ تَكُونَ المُدُنُ الأَكْثَرُ عُمْرَانًا وَازْدِحَامًا , غَيْرَ أَنّ وَاشُنْطُنَ العَاصِمَةَ مِنْ أَكْثَرِ مُدُنِ الوِلايَاتِ المُتّحِدةِ الكُبْرَى هُدُوءًا , وَأَبْعَدِهَا عَن الاتِّجَاهِ العُمْرَانِيِّ المَعْرُوفِ فِي أَغْلَبِ المُدُنِ الْعَالَمِيّةِ الكُبْرَى .




العاصمة الهادئة
زرت واشنطن العاصمة مرتين . أما الأولى فكانت خاطفة , زرت فيها متحفا للطيران وآخر للدَيْناصورات . والأخرى ازدحمت بزيارات متعددة خلال فترة وجيزة أيضا , سيكون الحديث عنها هذا اليوم .

مواقع قرار ..
كان أبرز ما يمكن زيارته في واشنطن مبنى "الكابيتال هيل" Capitol Hill , والذي يعد مجمعا للحكومة الفيدرالية في الولايات المتحدة الأمريكية ؛ حيث يتضمن الكونغرس , وهو المؤسسة الدستورية الأولى التي تعتبر الهيئة التشريعية في النظام السياسي , وتشتمل على مجلسي الشيوخ والنواب .
ولا يقتصر مبنى " الكابيتال هل" على الكونغرس فقط , بل يتضمن مكتبة الكونغرس الشهيرة , و المحكمة العليا The Supreme Court .
لقد تمكنا خلال هذه الرحلة القصيرة أن نزور الكابيتال هِل بالإضافة إلى مبنى وزارة الدفاع الأمريكية " البنتاجون " .. ولم يتيسر لنا زيارة البيت الأبيض والإف بي آي .

تحفظات أمنية
قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر كان قليلا ما تُرى أجهزة الفحص عند المداخل , ولذلك فإنني عندما رأيتها في مثل هذه المواقع أُبهرت بحجم التحفظات الأمنية . أما الآن فربما نجد أن مثل ذلك يعد إجراءً شائعا يواجهنا في الفنادق الكبرى والأسواق وغيرها .

سلكنا طريقنا إلى تلة الكابيتال من خلال جادة بنسلفانيا Pennsylvania avenue – إحدى الجادتين الموصلتين إلى تلك المنطقة , وقد كان الطريق سلسا للوصول .
وعند اقترابنا إليها لاحت قبة المبنى البيضاء الشهيرة حتى إذا ما اتخذنا الطريق الدائري حوله بدت لنا المنطقة فسيحة مزدانة بالمساحة الخضراء قد أحاطت بمنى الكابيتال كما يحيط السوار بالمعصم ..
وامتد في واجهتها الأمامية مساحات شاسعة خضراء منسقة ومزينة كالحدائق تتصل حتى نصب واشنطن الشهير .

لقد كان وجودنا في واشنطن يصادف زمن أوائل الربيع , فكانت الأشجار تكتسي حُللها الجديدة , وتبدو متدثرة بألوان متعددة تبهج الناظر , وتخبره أن الربيع – بالفعل - قد حل زمانا ومنظرا !
لم نكن مضطرين إلى أن نقف بالسيارة مسافة بعيدة جدا , بل أوقفناها في مكان معقول , ثم سرنا في هذه الحدائق متجهين إلى مبنى الكابيتال هل . وقد يختلط على الماشي إلى هناك طول الطريق , فلم نكن ندري ألطريق قصير؟ أم أن الحدائق قد اختصرت السير في لحظات شُغِلت فيها أبصارنا بجمال الطبيعة الخضراء المنسقة ..
الكونغرس
ومن خلف المبنى الكبير كان الدخول إلى الكونغرس* ... لقد نظمت الزيارات إليه بحيث يمكن دخول الزوار إلى أبرز مرافقه دون تعويق لمهامه اليومية .
وفي داخل مبنى الكونغرس , وفي الطريق إلى مجلسي الشيوخ والنواب كنت أتوهّم أو أتخيل أنني سأرى القاعتين بكافة أحداثها التي نراها كل يوم خلال الشاشات في نشرات الأخبار , ممتلئةً بالشيوخ أو النواب مكتظّة بقضاياها , وقد احتل فيها الرئيس موقعه , وكلٌّ قد أخذ محله في الإنصات تارة , أو التحدث تارة , أو التصويت تارة أخرى .
قادنا الطريق إلى قاعتي المجلسين , في دهاليز تميزت بتصميم تقليدي " كلاسيكي " . حتى خيّل إلينا ونحن فيها أننا نتجوّل في أحد القصور التاريخية القديمة . لقد كان الهدوء يسود المكان , والزائرون القلائل يتجولون بهدوء بين غرفات المبنى وقاعاته يقود زيارتهم مرشدٌ يتحدث بأهم ما يمكن الحديث عنه .
وصلنا إلى قاعة النواب الدائرية التي تحل تحت إحدى قباب المبنى الكبيرة , ورأيناها تماما كما نراها خلف الشاشة , غير أنها كانت صامتةً ساكنةً فلا نواب , ولا رئيس جلسة , ولا متحدث , ولا منصتون , ولا تصويت !
وكانت الأخرى كذلك ..


مكتبة الكونغرس
وفي ناحية أخرى من المبنى قمنا بزيارة مكتبة الكونغرس الشهيرة . وكان الدخول إليها من الخارج بمدخل منفصل تماما عن مرافق المبنى الأخرى . وقد نصب عند مدخلها كذلك حاجبا إلكترونيا ( جهاز الفحص ) ليستسمحه في الدخول كل راغب , فإن دخله سليما دخل , وإلا زمجر الحاجب زمجرة المغضب ألا دخول حتى يتم تفتيشك ..

مكتبة الكونجرس الشهيرة , صممت بأسلوب بناء تقلييدي يشابه القصور الكبيرة , وتشتمل على بهو أحيطت أدواره بالأقواس الجميلة , وازدانت جدرانه بالرسومات الملونة , ونصبت التصاوير , وتوّج بقبة عملاقة مزخرفة .




بأبي هو وأمي !
أما آخر زياراتنا في هذا المجمع الحكومي فكانت إلى المحكمة العليا The Supreme Court وهي أعلى جهة قضائية في الولايات المتحدة الأمريكية , والذي يضم متحفا يبين التاريخ التشريعي للولايات المتحدة الأمريكية وفي العالم .
مبنى المحكمة العليا مبنى تقليدي , يتوارد شكله إلى الأذهان كلما ذُكِرت المحاكم ؛ فالأعمدة الطويلة جدا تصطف عند مدخله . ويعلوها نحت وتصاوير .
مررنا بالمتحف ورأينا فيه ما رأينا من معروضات وشروحات مكتوبة . ثم انتقلنا إلى غرفة المحاكمة الحمراء .


وفيها رأينا رأي العين ما سمعنا عنه مرارا وتكرارا . لقد كان يتصدر واجهة المحكمة في أعلى جدارها الشمالي صفا من التماثيل المنحوتة , والتي يمثّل كل نحت فيها شخصية ذات تأثير تشريعي في التاريخ .
ولقد أثار حفيظتنا نحت لشخص النبي صلى الله عليه وسلم كأحد الشخصيات التاريخية الكبرى التي أثرت في تاريخ التشريع .
ففي عام 1935م قام أحد النحاتين الأمريكيين بعمل نحت يمثّل أبرز الشخصيات التي يعتقد أن لها الجهد المؤثر في مسيرة الحياة البشرية , وكانت هذه التماثيل لموسى، وعيسى، وسليمان، ونبينا محمد صلاة الله وسلامه عليهم ونابليون.. وغيرهم من القادة اليهود القدماء.
إن مسألة تجسيد شخصية النبي صلى الله عليه وسلم في صورة أو تمثال مسألة تجاوز الحدود الشرعية المعروفة لدى كل المسلمين من عالمهم إلى جاهلهم ومن صغيرهم إلى كبيرهم , لذا يرفض المسلمون مثل هذا الفعل أن يصدر عنهم أو عن غيرهم .
وبالفعل , فقد قامت عدد من الجهات الإسلامية بتقديم اعتراض على هذا الأمر , منها مجلس العلاقات الأميركية الاسلامية (كير) , وطلبت مرات عدة سَحب القطعة التي تجسّد النبيّ محمد صلى الله عليه وسلم , إلا أن المحكمة اعتذرت عن تلبية الطلب , لما في إزالة صورة النبي صلى الله عليه وسلم من تأثير على بقية الصور المنحوتة ..
وما زالت المطالبات قائمة من جهات متعددة **.
لقد تضمّن المتحف كذلك جانبا من حياة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم , إلا أنها كانت تُرجع أحداث سيرته صلى الله عليه وسلم التشريعية إلى اجتهاداته كحاكم , وليس كنبي يوحى إليه فيما بدا لي من العبارات التي قرأتها في زوايا المتحف ..
بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم .. أشهد أنه نبي الله ورسوله .


حول البنتاغون
في منطقة البنتاغون كان الصمت يخيّم ثقيلا ثِقَل المبنى الخماسي الكبير جدا . ولا يرى الزائر إلى هناك خارج المبنى إلا أعدادا محدودة من أشخاص متفرقين قد تنوّعت أزياؤهم العسكرية , وكانت تشير بطبيعة الحال إلى انتماء كل واحد منهم إلى الدفاع الجوي أو المارينز وغير ذلك ..
إلا أن دخولا إلى البنتاجون يزيل حاجز الصمت إلى ما يشبه خلية النحل من الداخل . كانت زيارتنا إلى البنتاغون سريعة وخاطفة ..

ولقد حصل لي موقفا طريفا يتعلق بالبنتاغون , حيث ارتبط لدي لفظ البنتاغون بمبنى وزارة الدفاع الأمركيية . كنت يوما في إحدى محاضرات "الطرق المتقدمة في تدريس الرياضيات" خلال دراستي . وكانت تتضمن المادة مناقشة أنشطة تحقق أهداف المادة لدى الطلاب , فطلبت أستاذة المادة منا كافة اقتراح وتنفيذ شكل للبنتاغون ( بنتاغون تعني الشكل الخماسي ) . فقامت جميع الطالبات باقتراح أشكال تقليدية للبنتاغون , غير أنني شكّلت شكلا يماثل المبنى المعروف تلقائيا , نظرا لارتباط اللفظ الإنجليزي لدي بشكل المبنى فقط , لا أكثر ولا أقل ! فعدّت أستاذة المادة الأمريكية عملي هذا ضربا من الإبداع الذي لم يتوصل إليه أحدٌ في القاعة . وأشادت به على طريقة تبهير الأوصاف الأمريكية , وأصبحت تنتظر مني في كل محاضرة أن آتي بالإجابات والمقترحات ما لايستطيع أحدٌ في القاعة أن يجيب به . فكنت أضحك كثيرا في نفسي , وأقول : لا إبداع ولا شيء ! ..
وربما يكون ( الأعور ) أحيانا بين العميان ( باشا ) ..

ختام ~
موجزٌ لرحلة واشنطن ..
ألقيته عن كاهلي ..
دونكم إياه ..
................
وأما واشنطن العاصمة ..
فعاصمة ماذا ؟
ربما تركتكم لتضيفوا إلى وصف عاصميتها
وصفا مناسبا حسب ما ترون ..




...................................

* لمعلومات عن الكونغرس :
http://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A7%D9%84%D9%83%D9%88%D9%86%D8%BA%D8%B1%D8%B3_%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%85%D8%B1%D9%8A%D9%83%D9%8A

** بإمكانك معرفة جانب من قصة اعتراض المسلمين على النحت على هذا الرابط :
http://www.alriyadh.com/2006/03/24/article140643.html

السبت، ٧ يونيو ٢٠٠٨

رحلة واشنطن 1

بالتيمور .. وأعراسُ البحار
1417هـ / 1997م




لا أَدْرِيْ لمَاذَا تَسْتَعْصِيْ رِحْلَةُ وَاشُنطُنَ عَلَى ذَاكِرَتِيْ وَقَلَمِيْ ,

وَلا أَدْرِيْ فِيْ الوَقتِ نَفْسِهِ لِمَاذَا تُلِحُّ أَحْدَاثُهَا المُتَفَرّقَةُ عَلَيّ بِالظُّهُورِ ..

واشنطن
واشنطن دي سي هي عاصمة الولايات المتحدة الأمريكية , وترمز الحروف D.C إلى District of Columbia أو قطاع كولومبيا . وهو قطاعٌ اتحادي (فيدرالي) تحت سلطة الحكومة الفيدرالية مباشرة , وليس تحت أي ولاية من الولايتين : ماريلاند وفرجينيا الأمريكيتين اللتين يقع عليهما هذا القطاع .


قبل السفر
قبل السفر إلى واشنطن هاتفت إحدى قريباتي , وقد كانت تسكن في ولاية ماريلاند , لأسألها عن مدينة بالتيمور فلقد عقدنا الأمر على زيارتها قبل أن نتوجه إلى واشنطن . نبهتني قريبتي إلى أمر ينبغي الانتباه له , وهو منطقة وسط المدينة ؛ حيث يجب أن يحتاط فيها المرء من عصابات السرقة . هذا التنبيه نفسه قد واجهته بالفعل في وسط مدينة بالتيمور ؛ فلقد لحظت أن مواقف السيارات قد امتلأت بالملصقات التي تؤكد خلو مسؤوليتها عن محتويات السيارة , وتنبه إلى إغلاق المركبات قبل مغادرتها . الأمر الذي لم أواجهه في كثير من الولايات ...
ألهذه الدرجة ينعدم الأمن في بالتيمور ؟


"داون تاون" بالتيمور
وفي الحقيقة أن منطقة وسط مدينة بالتيمور كأي منطقة " وسط مدينة " - أو كما يسميها الأمريكيون " داون تاون " - تتكاثر فيها الأبنية الشاهقة الارتفاع , بحيث تضيق الشوارع والطرق بينها , فتشعر حين تمر في أوسع الطرق بأنك في زقاق أو سكة ..
وإنك حين تتجول فيها أوقات العمل لا ترى حولك إلا أشخاصا دائبي الحركة بهندامهم الرسمي وحقائب العمل , يمشون بهمة , لا يلتفتون ولا يأبهون بالطريق . تتأكد في صورتهم تلك روتينية الحركة , وتقرأ في هيئة أحدهم أن العمل قد ركِبه على رأسه , وفاض حتى وصل أخمص قدميه . أو تحسب أن أحدهم يسير نحو موعدٍ هامٍ أو اجتماع , وفي كل حين يرفع ساعده , وينفض قميصه , ويلف معصمه لتظهر ساعة يده تخبره أنك في الموعد أو قد تأخرت ..
في مثل تلك المناطق يندر أن ترى فئتين من الناس , هما : الأطفال والشيوخ !



حوض بالتيمور المائي
في ضحى يومنا في بالتيمور , توجهنا إلى الحوض المائي Maryland Aquarium وهو يمثل مكانا أشبه بحديقة حيوان لكنه للأحياء المائية .. كان يتطلب وصولنا إلى هذا الحوض أن نوقف السيارة في مواقف عامة . وعند مغادرتنا تأكدنا مرارا أن السيارة لا تحوي شيئا من أدواتنا الثمينة , ثم تأكدنا تكرارا أنها محكمة الإغلاق , ثم توجهنا إلى حيث يقع هذا الحوض .
وخلال سيرنا مررنا بمجمع ضخم جدا متعدد الأبنية , اتضح لنا أنه مركز المدينة للمؤتمرات كعادة كثير من المدن الكبرى في الولايات المتحدة الأمريكية حيث يشتمل وسط المدينة عادة على مركز ضخم للمؤتمرات والمناسبات ..
جاوزنا المركز ثم واصلنا السير حتى وصلنا إلى الحوض المائي .
عَالَمُ أَعْرَاسٍ
إن كنت أملُّ من زيارة حديقة الحيوانات , فإني لا أمل أبدا الأحواضَ المائية , حيث اكتشف هنالك عالما آخر من الحياة يزخر بالأسرار , ويزهو بالألوان والأشكال , ويتدثر بأعاجيب خلق الله في الأسماك وغيرها من المخلوقات ..
ومن أعجب ما أرى في مثل هذه الأحواض : الأسماكُ مختلفةُ الأحجام والألوان والنقوش . قد تعجز الحروف والكلمات عن وصف جمال هذه الأسماك حين تزين أحواضها بأبدع الأنواع والأشكال ؛ فمن أسماك مخططةٍ إلى أسماك منقّطةٍ إلى متموجةٍ , وألوانها من أعجب الألوان وأزهاها وأنقعها .
جمالٌ يأخذ باللبِّ ويبهرُ البصرَ , حتى ليخيل إلى الناظر أن هذه الأسماك ما هي إلا فتيات الأعراس يختلن بأثواب المناسبات الملونة المزركشة .
لقد كِدت أُقسِم أن صنّاع أقمشة " الهوت الكوتور" ما جاؤوا بشيء من تلقاء أنفسهم , وإنما غاية ما فعلوه أنهم تعقّبوا هذه الأسماك البديعة , ثم قلّدوا بديع صنع الله فيها ..
ما بين ألوان ناقعة مخملية إلى ألوان زاهية فسفورية ..
وللنباتات حولها قصة أخرى ..
ربما كانت منصات العرائس تحاكيها ,
ولكن هيهات فالفرق في الإتقان والجمال بينهما أبعد مما بين المشرقين ..

وترى الأسماك مختلفة التقاطيع ,
وتنظر في إحداها لترى في تقاطيعها ما يمكنك أن تقرأ فيها
مثل ما تقرؤه في وجوه البشر
من عبوسٍ أوانشراحٍ أوسذاجةٍ أودهاء .
إلا إنك لا تستطيع الجزم بأن هذه التقاطيع
تعكس مزاجيةٍ ما لدى السمكة
ارتبطت لديك عند رؤية هذه التقاطيع !
جيولوجيا
وفي موقع آخر خاص بالحياة الجيولوجية ترى عجبا , إذ صُمّم الموقع بطريقة تظهر معه أنواع الأحجار بأجمل ما تكون .
كان المدخل إلى جناح الأحجار الكريمة يشبه إلى حد كبير الدخول إلى مغارة سوداء معتمة ينبعث منها أضواء مركّزة محدودة الانتشار في مواقع متعددة . فقد أعد في صورة قاعةٍ مظلمة قد رُصِّعت بعدد كبير من الوحدات الزجاجية التي نسقت بعناية في نواحي متعددة , وزوّدت هذه الوحدات بنظام إضاءة متقن وبفن وحرفية عاليتين . ثم وُضع في كل وحدة زجاجية نوعا من الأحجار الكريمة على اختلاف أنواعها وأشكالها وتبلورها وألوانها , فما تملك حين تراها إلا أن تسبح كثيرا كثيرا .. ثم تتأمل بديع صنع الله في الجمادات بعد تأملك بديع صنعه في الأحياء .


ظلومٌ جهول
إننا إذ نظن أننا تربعنا على عرش الدنيا , ونظن أننا ملأناها حضارة وسكانا , نجهل غاية الجهل أن عوالم أخرى يجري فيها من عجيب صنع الله ما يجري , وأن مخلوقاتٍ في جوف البحار تكاد تتفوق في أصنافها ما يدب على صعيد الأرض .

فرس البحر , السمكة الكهربائية , أسراب السمك الصغير , أسماك القرش المفترسة , الأسماك الهلامية .. الأسماك الشفافة , جميعها ليست ضربا من الأساطير , وإنما هي وغيرها - كثير مما يبهر حقا - واقعٌ يختبئ في أعماق البحار .. "فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ" المؤمنون 14
"إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ" البقرة 164
إن قلبا مؤمنا وعقلا متفكرا ليزداد إيمانا بالله وشهادة بعظمته ووحدانيته سبحانه وتعالى , ثم يعلم علما يقينيا أن هذا الكون البديع ما كان باطلا أو عبثا . " الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ" آل عمران 191

هذا الكون الذي جمّله الخالق ببديع الصنع , هو الكون الذي جمّله خالقه أيضا بشريعة الإسلام التي تجعل حياة الإنسانية فيه في أرقى صورها وأبهى مظهر لها وأجمله , والعاقبة في الدار الآخرة خير للمتقين , ولكن أكثر الناس لا يعلمون , وعن شرع الله معرضون , " يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ , أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ" الروم 7 -8

من بالتيمور , وعلى مقربة من عاصمة الولايات المتحدة الأمريكية ما زلنا في طريقنا إلى مقصدنا الرئيس في الرحلة .. إلى واشنطن ,
فما كان الخبر هنالك ؟
لعلي أرجئه لتدوينة أخرى ..
ألم أقل ؟ .. كم تستعصي عليَّ واشنطن !

الأربعاء، ١٤ مايو ٢٠٠٨

شلالات نياغَرا .. بين إطلالتين ..

مايو 1999م

إِلَى عُمَرَ .. أشكرُه على اللقطات .. ولَعَلّهُ يَتَفَضّل بِإِطْلالَةٍ عَلَى الأَحْبَارِ : )

تُخَالِفُ طَبِيعَتَهَا مَن تَقُولُ أَنّ فيْ مُطلَقِ الخُرُوجِ مِن البَيتِ انطِلاقَةً لهَا وَرَاحَةً ..
قَدْ نَجِدُ مِنَ النّسَاءِ مَن تُنَازِعُ وَتُجَادِلُ كَيْ تَخرُجَ مِنَ البَيْتِ مِثْلَهَا مِثلَ الرّجُلِ تَمَامًا .
وَأظُنُّ أَنّهَا تُخَالِفُ نَزعَة قَوِيّةً فِي فِطْرَتِهَا , أَوْ أَنهَا لَمْ تَخبُرْ الحَيَاةَ بِشَكْلٍ جَيد !

ما كان الخروج يوما ما غاية تستحقّ لأجلها أن تنازع المرأة , بل إن قمة راحتها أن تكون قريرة العين قارّة في مكانٍ هي من تصنع سعادته وبهجته .. ليست هذه وجهة نظر شخصية فحسب , وإنما هو رصدٌ لرأي العديدات ممن جربّن . وخيرٌ من ذلك أن القرار في البيت أمرٌ ربانيٌّ , وأي الأحوال ينسجم مع طبيعة الإنسان , إن لم تكن الحال التي ترضي من خلقها , وهو أعلم بما يصلحها.. !*

عذرا ! أجدني اليوم , أخالف لهجة الأحبار , وأنعطف انعطافا حادا نحو موضوعٍ آخر , ولكن تأمّلوا أيها الأفاضل والفضليات .. ما حياة أحدنا إلا شبكة معتقداته ..
إنني حين أسافر أحرص أكثر ما أحرص على المقام الطيب , الذي يوفر للساكن راحة النفس والبدن ..
ومما أحرص عليه كذلك أن يكون ذا إطلالة تمنحني وقتا طويلا في التفكّر , وبعيدا عن الخروج إلى صخب الحياة .

ولربما يغنيني السكن في البلد الحرام , أو في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم في موقع ذي إطلالة أمام المسجدين عن الخروج إلى المسجد , أكفُّ عن المصلين بكاء أطفالي تارة , أو أكفُّ عن نفسي مشقة تدبير من يكون معهم , ثم أؤدي الصلوات في مكاني إيمانا بأن صلاتي في بيتي أعظم أجرا , وإن كنت في البلد الحرام ..
وقد تكفيني زيارة المسجد عددا محدودا من المرات .. وكذلك الأمر حين لا تتيسر الإطلالة بالطبع . إلا أن الإطلالة بلا شك تمنحني شعورا بأنني مع المصلين في دخولهم وخروجهم وحركتهم , وأنا قابعةٌ في بيتي وبين أطفالي , وأصلي فرضي باطمئنان.
إطلالتان نهارية وليلية من مقر سكننا على المسجد النبوي الشريف بعدسة عمَر .

إن بعض الأسفار تتطلب نوعا من الحركة الدؤوب لرؤية معلَم أو لزيارة طبيعة وغيرها , وإلا لم كان السفر ؟! ولكنني أظن أن الرحلة الجيدة هي التي لا يحرم الفرد نفسه فيها من استرخاء البدن والنفس , فقدرٌ موزونٌ من برامج الزيارات السياحية , مع وقت كافٍ لالتقاط الأنفاس والتأمل , هي في ظني أفضل من برنامج يستغرق عليك يومك كله من الفجر حتى غسق الليل . تلك هي فلسفتي في السفر ..

وأحيانا قد تسافر سفرا تقصد فيه أن تقلل من الحركة وتنزع إلى الهدوء .. , لاسيما بعد فترة جهد وعمل .
في رحلتي الثالثة إلى شلالات نياغرا دخلت الفندق أول ما وصلت , ولم أخرج منه إطلاقا إلا عند العودة إلى المدينة التي نسكن فيها .. وللعلم فإن المسافة تقريبا بين مدينتنا والشلالات هي ما يقارب الخمس ساعات أو أقل قليلا ..

وربما يتساءل السائل , وهل يستحق أن يسافر أحدنا الساعات ليحصل على الهدوء والاسترخاء فقط ؟!
ليس على كل حال , ولكن إن يحصل لك أن تظفر بإطلالة في حضن الشلال فنعم .
وأي حاجة لك بعد ذلك في الخروج من غرفة الفندق ؟!

قبل الرحلة اشتد حرصي على أن يتم الحجز في فندقٍ يتمتع بإطلالات حقيقية على شلالات نياغَرا , وبطبيعة الحال فإن مثل هذه الفنادق تحظى بتسعيرة مرتفعة للغاية في أوقات المواسم , وهي أكثر ارتفاعا عند حجز الغرف والأجنحة المطلة , غير أنها فيما سوى ذلك تكون بأسعارٍ ربما لا أقول منخفضة , وإنما معقولة ..

وقد كان ذلك , فانطلقنا متجهين نحو الشمال , حتى إذا ما وصلنا إلى بافالو , ومنها دخلنا إلى أونتاريو في كندا عبر الجسر الممتد فوق مجرى مصب الشلالات توجهنا حينئذ إلى فندق الشيراتون فولز فيو , ثم حططنا رحالنا في غرفة احتلّ زجاج النافذة الأمامية منه أغلب الحائط , وكنا في مواجهة الشلالات ..

كانت الشمس تُشرِف على المغيب , وكان المساء يرخي سدوله على الشلالات وما حولها . وبعد أن أدينا صلاة المغرب وأخذنا قسطا من الراحة بعد الطريق , تشاورنا في كيفية قضاء الليلة . وكنت قد بيّت نيتي أول ما رأيت المنظر البديع الذي تشرف عليه غرفتنا أنني لن أخرجَ حتى نهاية الرحلة , وحالي كحال مهنا حين قيل له "جاك يا مهنا ما تمنى" .. فطرحت فكرة المكث في غرفة الفندق , والاكتفاء بها عن الخروج , لا سيما وإنني قد نلت حظي من معالم الشلالات السياحية في رحلات سابقة ! استغرب أبوعبدالله هذا الاقتراح , غير أنه بعد ذلك وجدَه خيارا منطقيا , وفرصة لجلسة أسرية هادئة مع الأولاد ..

قد كانت هذه الرحلة بعد الانتهاء كذلك من عام دراسي حافل لأولادي الثلاثة , فقد كنت أقتسم فيها ووالدهم تدريس كافة المقررات الدراسية السعودية في المنزل , بجدولٍ دراسيٍّ وحصصٍ في فترة صباحية منضبطة . لقد كانت تجربة التدريس المنزلي ممتعة وثرية , مع ما فيها من التحديات , ولذا ؛ كانت رحلتي هذه تمثل تتويجا لإنجازات عدة , وقد كان هذا أجمل ما فيها ..
ولم نكن بحاجة إلى أن نبذل وقتا طويلا في النزهة بقدر حاجتنا إلى الجلوس جميعا , والحديث عما نأمله خلال الإجازة الصيفية المقبلة بعد أن نصل إلى ديارنا التي هي بصحاريها أجملُ في قلوبنا , وبما تحتضنه من أراضٍ مقدسة هي أكثر بركة وأعظم قدرا , وأجلّ وأطيب على نفوسنا .
لقد كانت نفوسُنا تهفو إلى البلد الحرام , لتجلوَ عنا بروحانيتها الصورة المغرقة في المادية , تلك التي يحيا بها الناس في تِرسٍ عملاقٍ يسمى الحياة الأمريكية ..


تأملنا الشلالات كثيرا , صاحبَنا التأمل ( كاميرا الفيديو ) التي وثّقت كثيرا من لحظاتنا , ولما كانت الإطلالة متجهة نحو المشرق .. وثّقت ( الكاميرا ) شروق الشمس خلف منظر الشلالات , ورقبنا الشمس منذ أن أطلّت بطرفها حتى أكبّت بوجهها على الشلالات فجعلت المياه براقةً بريق الذهب , حتى ليخيّل إليك أنك أمام مصبِّ ذهبٍ مذاب ..




انقضت رحلتنا .. عدنا إلى مدينتنا .. يحدونا الشوق إلى نعود إلى ديارنا السعودية , وإلى والدينا وإخوتنا وأحبابنا .. أن نزور مكة المكرمة التي لا تغني عن راحة مكانها وزمانها أي راحة .. ولا الإطلالة على مسجدها الحبيب أي إطلالة ..






..................



* دلت الآية " وقرن في بيوتكن " على أنه الأصل في المرأة . ( نوال العيد , حقوق المرأة في ضوء السنة النبوية , 1427هـ )