الأربعاء، ١٤ مايو ٢٠٠٨

شلالات نياغَرا .. بين إطلالتين ..

مايو 1999م

إِلَى عُمَرَ .. أشكرُه على اللقطات .. ولَعَلّهُ يَتَفَضّل بِإِطْلالَةٍ عَلَى الأَحْبَارِ : )

تُخَالِفُ طَبِيعَتَهَا مَن تَقُولُ أَنّ فيْ مُطلَقِ الخُرُوجِ مِن البَيتِ انطِلاقَةً لهَا وَرَاحَةً ..
قَدْ نَجِدُ مِنَ النّسَاءِ مَن تُنَازِعُ وَتُجَادِلُ كَيْ تَخرُجَ مِنَ البَيْتِ مِثْلَهَا مِثلَ الرّجُلِ تَمَامًا .
وَأظُنُّ أَنّهَا تُخَالِفُ نَزعَة قَوِيّةً فِي فِطْرَتِهَا , أَوْ أَنهَا لَمْ تَخبُرْ الحَيَاةَ بِشَكْلٍ جَيد !

ما كان الخروج يوما ما غاية تستحقّ لأجلها أن تنازع المرأة , بل إن قمة راحتها أن تكون قريرة العين قارّة في مكانٍ هي من تصنع سعادته وبهجته .. ليست هذه وجهة نظر شخصية فحسب , وإنما هو رصدٌ لرأي العديدات ممن جربّن . وخيرٌ من ذلك أن القرار في البيت أمرٌ ربانيٌّ , وأي الأحوال ينسجم مع طبيعة الإنسان , إن لم تكن الحال التي ترضي من خلقها , وهو أعلم بما يصلحها.. !*

عذرا ! أجدني اليوم , أخالف لهجة الأحبار , وأنعطف انعطافا حادا نحو موضوعٍ آخر , ولكن تأمّلوا أيها الأفاضل والفضليات .. ما حياة أحدنا إلا شبكة معتقداته ..
إنني حين أسافر أحرص أكثر ما أحرص على المقام الطيب , الذي يوفر للساكن راحة النفس والبدن ..
ومما أحرص عليه كذلك أن يكون ذا إطلالة تمنحني وقتا طويلا في التفكّر , وبعيدا عن الخروج إلى صخب الحياة .

ولربما يغنيني السكن في البلد الحرام , أو في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم في موقع ذي إطلالة أمام المسجدين عن الخروج إلى المسجد , أكفُّ عن المصلين بكاء أطفالي تارة , أو أكفُّ عن نفسي مشقة تدبير من يكون معهم , ثم أؤدي الصلوات في مكاني إيمانا بأن صلاتي في بيتي أعظم أجرا , وإن كنت في البلد الحرام ..
وقد تكفيني زيارة المسجد عددا محدودا من المرات .. وكذلك الأمر حين لا تتيسر الإطلالة بالطبع . إلا أن الإطلالة بلا شك تمنحني شعورا بأنني مع المصلين في دخولهم وخروجهم وحركتهم , وأنا قابعةٌ في بيتي وبين أطفالي , وأصلي فرضي باطمئنان.
إطلالتان نهارية وليلية من مقر سكننا على المسجد النبوي الشريف بعدسة عمَر .

إن بعض الأسفار تتطلب نوعا من الحركة الدؤوب لرؤية معلَم أو لزيارة طبيعة وغيرها , وإلا لم كان السفر ؟! ولكنني أظن أن الرحلة الجيدة هي التي لا يحرم الفرد نفسه فيها من استرخاء البدن والنفس , فقدرٌ موزونٌ من برامج الزيارات السياحية , مع وقت كافٍ لالتقاط الأنفاس والتأمل , هي في ظني أفضل من برنامج يستغرق عليك يومك كله من الفجر حتى غسق الليل . تلك هي فلسفتي في السفر ..

وأحيانا قد تسافر سفرا تقصد فيه أن تقلل من الحركة وتنزع إلى الهدوء .. , لاسيما بعد فترة جهد وعمل .
في رحلتي الثالثة إلى شلالات نياغرا دخلت الفندق أول ما وصلت , ولم أخرج منه إطلاقا إلا عند العودة إلى المدينة التي نسكن فيها .. وللعلم فإن المسافة تقريبا بين مدينتنا والشلالات هي ما يقارب الخمس ساعات أو أقل قليلا ..

وربما يتساءل السائل , وهل يستحق أن يسافر أحدنا الساعات ليحصل على الهدوء والاسترخاء فقط ؟!
ليس على كل حال , ولكن إن يحصل لك أن تظفر بإطلالة في حضن الشلال فنعم .
وأي حاجة لك بعد ذلك في الخروج من غرفة الفندق ؟!

قبل الرحلة اشتد حرصي على أن يتم الحجز في فندقٍ يتمتع بإطلالات حقيقية على شلالات نياغَرا , وبطبيعة الحال فإن مثل هذه الفنادق تحظى بتسعيرة مرتفعة للغاية في أوقات المواسم , وهي أكثر ارتفاعا عند حجز الغرف والأجنحة المطلة , غير أنها فيما سوى ذلك تكون بأسعارٍ ربما لا أقول منخفضة , وإنما معقولة ..

وقد كان ذلك , فانطلقنا متجهين نحو الشمال , حتى إذا ما وصلنا إلى بافالو , ومنها دخلنا إلى أونتاريو في كندا عبر الجسر الممتد فوق مجرى مصب الشلالات توجهنا حينئذ إلى فندق الشيراتون فولز فيو , ثم حططنا رحالنا في غرفة احتلّ زجاج النافذة الأمامية منه أغلب الحائط , وكنا في مواجهة الشلالات ..

كانت الشمس تُشرِف على المغيب , وكان المساء يرخي سدوله على الشلالات وما حولها . وبعد أن أدينا صلاة المغرب وأخذنا قسطا من الراحة بعد الطريق , تشاورنا في كيفية قضاء الليلة . وكنت قد بيّت نيتي أول ما رأيت المنظر البديع الذي تشرف عليه غرفتنا أنني لن أخرجَ حتى نهاية الرحلة , وحالي كحال مهنا حين قيل له "جاك يا مهنا ما تمنى" .. فطرحت فكرة المكث في غرفة الفندق , والاكتفاء بها عن الخروج , لا سيما وإنني قد نلت حظي من معالم الشلالات السياحية في رحلات سابقة ! استغرب أبوعبدالله هذا الاقتراح , غير أنه بعد ذلك وجدَه خيارا منطقيا , وفرصة لجلسة أسرية هادئة مع الأولاد ..

قد كانت هذه الرحلة بعد الانتهاء كذلك من عام دراسي حافل لأولادي الثلاثة , فقد كنت أقتسم فيها ووالدهم تدريس كافة المقررات الدراسية السعودية في المنزل , بجدولٍ دراسيٍّ وحصصٍ في فترة صباحية منضبطة . لقد كانت تجربة التدريس المنزلي ممتعة وثرية , مع ما فيها من التحديات , ولذا ؛ كانت رحلتي هذه تمثل تتويجا لإنجازات عدة , وقد كان هذا أجمل ما فيها ..
ولم نكن بحاجة إلى أن نبذل وقتا طويلا في النزهة بقدر حاجتنا إلى الجلوس جميعا , والحديث عما نأمله خلال الإجازة الصيفية المقبلة بعد أن نصل إلى ديارنا التي هي بصحاريها أجملُ في قلوبنا , وبما تحتضنه من أراضٍ مقدسة هي أكثر بركة وأعظم قدرا , وأجلّ وأطيب على نفوسنا .
لقد كانت نفوسُنا تهفو إلى البلد الحرام , لتجلوَ عنا بروحانيتها الصورة المغرقة في المادية , تلك التي يحيا بها الناس في تِرسٍ عملاقٍ يسمى الحياة الأمريكية ..


تأملنا الشلالات كثيرا , صاحبَنا التأمل ( كاميرا الفيديو ) التي وثّقت كثيرا من لحظاتنا , ولما كانت الإطلالة متجهة نحو المشرق .. وثّقت ( الكاميرا ) شروق الشمس خلف منظر الشلالات , ورقبنا الشمس منذ أن أطلّت بطرفها حتى أكبّت بوجهها على الشلالات فجعلت المياه براقةً بريق الذهب , حتى ليخيّل إليك أنك أمام مصبِّ ذهبٍ مذاب ..




انقضت رحلتنا .. عدنا إلى مدينتنا .. يحدونا الشوق إلى نعود إلى ديارنا السعودية , وإلى والدينا وإخوتنا وأحبابنا .. أن نزور مكة المكرمة التي لا تغني عن راحة مكانها وزمانها أي راحة .. ولا الإطلالة على مسجدها الحبيب أي إطلالة ..






..................



* دلت الآية " وقرن في بيوتكن " على أنه الأصل في المرأة . ( نوال العيد , حقوق المرأة في ضوء السنة النبوية , 1427هـ )

هناك ٨ تعليقات:

غير معرف يقول...

سبحان الله فيما خلق

ما شاء الله تبارك الخلاق

الله يسعدك يدنياك وآخرته

ننتظر منك الجديد

= )

غير معرف يقول...

البلد الحرام كلما زرته.. كلما زاد شوقك شيئا فشيئا.. حتى تقع فيما يسمى " بالحب الشديد " لمكة والمدينة { والذين آمنوا أشد حبا لله }..

بعكس المناظر الخلابة التي تمل العين رأياها ببقعة تتكرر..
هذا من معجزات مسجد الله الحرام وكذلك هي كلماته .. فالقارئ لكلام البشر يعتريه الملل من قراءة قصة إذا كررها عشرات المرات
أو زار مكانا عشرات المرات..

إلا كلام الله ومسجد الله فهو على عكس المعتاد..



كم من غوث وشلال منهمر من الرحمات عند ملتزم الكعبة..
وكم من ماء بارد نضّاخ يذهب الدنس ويغسل ثوب الإيمان من جديد..


والافتراش على ( الصحن ) إنما هو افتراش على بساط الله في بيت الله..

إذن لا سواء..


رحــّـال

غير معرف يقول...

مرحبا رحيل..
أحببت هذه المدونة كما أحببت صاحبتها ..
نقلتني بأسلوب سلس من مشرق الأرض إلى مغربها.. وتوقفت بي هنا وهناك متأملة ملكوت الله وشؤون خلقه ..
واليوم أحببت أن أسطر هذه المشاعر في هذا التعليق ..
طبت وطاب الحل والترحال ..
ود،،

غير معرف يقول...

أختي الفاضلة..
من أجمل الأشياء أن تستمتع أنت بالصورة التي تريد أنت , لا كما يريدها الآخرون .أو ليس كما يمليها الآخرون علينا . أو نتشربها من مجتمعنا فنجد أنفسنا قالب منهم بدون أن نشعر أن الجلباب الذي لبسناه لا يناسبنا .
لذا كان رأيكم هنا في أطهر بقعة هو الرأي الصواب " و هو نفس رأيي لتلك الأماكن القدسة " .

و كان رأيكم هناك في جمال تلك المناطق هو أيضاً صوابٌ كامل , برغم أنه يخالف طريقتي و التي تجعلني منهكاً بعد السفر أيما إنهاك , فقد احتاج بعد إجازتي إلى إجازة .

و مما وجدته في هذا المجال أنني اختار بعض الأحيان فندقاً مناسباً أو شاليهاً مطلاً على البحر و يكفيني عنوة الذهاب للبحر في كل وقت مع اطفالي و عائلتي .

في الختام أجمل الرحلات ما اختزن فيها سطورها الفائدة للقارئ , سعدنا بالمنعطف الرائع .
ملحوظة : أجد أن مدونتكم لها عصيان خاص معي - أو أعتقد أنه معي - فأحاول بعض الأحيان و لا استطيع أن أدخل للتعليق على الموضوعات , و هذا الشيء يحدث لي كذلك مع مدونة أخرى تابعة لقوقل .
و لا أعلم هل الأفضل هذا البلوق , أم بلوقات اللووردبريس المجاني . من ناحية سرعة الاستجابة للتحميل .

بارك الله فيكم و رعاكم و حفظ لكم أبناءكم

رحيل يقول...

أهلا وسهلا بك نور

أبشري بالجديد ,

لعلي أحظى بحضورك الحبيب

لا عدمتك ..

رحيل يقول...

الأخ الفاضل رحّال

لا أملّ التأمل في ملكوت الله عز وجل

حتى صحارينا المقفِرة أجد فيها من أسرار الجمال

ما يرغم القلب أن يسبّح كثيرا كثيرا ..

ويشهد بالوحدانية والجلال ..

ذلكم هو التفكّر والتدبر

الذَين أُمِرنا بهما كثيرا

ونحرم أنفسنا كثيرا من إشراقاتهما الإيمانية ..

وأما الرحلة إلى بيت الله عز وجل ,

فتلك رحلة لها أسرار وأسرار .

إنها مهوى الأفئدة !

رحيل يقول...

الأخت الحبيبة رشأ

تدين لك هذه المدونة

بأنك أول من أوقد الأمل

بجدوى ما تحويه من متاعٍ يسيرٍ متواضع

كوني بقرب ,,

رحيل يقول...

الأخ الفاضل
نسيم نجد

أعترفُ بالفروق بين الرحلات العائلية وغيرها ..
لاشك أن حركة الرجل منفردا أو مع مجموعة رفاق
هي أكثر انطلاقة من حركة العائلة ..

وهي بدون أطفال أسهل منها مع الأطفال .
ربما تكون هذه زاوية يجدر النظر
من خلالها عمليا .
وقد وجدتها في رحلاتي كذلك !

*
يشكو كثير من الصحب أن التعليق في البلوقر معقّد ومستعصي ..

لذا أضفت في صفحتي استفتاء خاصا بذلك ,
لأبعث بنتيجته مع طلب حل المشكلة إلى الدعم الفني ..

أفكّر أحيانا في الانتقال إلى الوورد برس
غير أن النواحي التقنية لا تلحُّ علي كما تلح على غيري ,
وإن كنت أحرص بأن لا أفوّت ردود زوار مدوّنتي وانطباعاتهم ..

آمل أن تحل المشكلة قريبا .
شاكرة تفضلك بالزيارة والتعقيب ,,