السبت، ١٩ يوليو ٢٠٠٨

جبال الدخان 4

سمكٌ مشويٌّ و ... دب !

قالت :
إِنَّ وَاحِدًا مِنْ دِبَبَةِ الغَابَةِ مُتَوَجِّهٌ إِلَيْكُمْ .. إِنَّهُ كَبِيْرٌ جِدًّا !



في المنتزه الوطني لجبال الدخان في الولايات المتحدة الأمريكية تتناثر المناطق المهيّأة للزوّار . فيجد السائح بين كل مسافة وأخرى عددا من المقاعد تحيط بطاولتها الخشبية , وفي جوارها منطقة للشواء .. إنها تغري المارّ أن يخصص وقتا للجلوس وتناول الغداء بين جذوع الأشجار العملاقة وتحت أغصانها المتشابكة .وبالفعل , صرنا نتحين الوقت الذي يمكننا فيه أن نشتري ما نشويه لننعم بوجبة هنيئة مريئة في أحضان الطبيعة الغناء . وعزمنا مرات عديدة غير أن شيئا ما يعيقنا عن تنفيذ ما نريد .

وجاء اليوم الموعود فأخذنا استعدادنا وتوجهنا إلى أقرب بقالة , وابتعنا منها ما نحتاجه لنشوي , وفي مقدمة ذلك كله مقدارٌ من السمك الطازج الذي ستنعشنا رائحة شوائه و سيملأ طعمه حاسة التذوّق منا , ثم ستمتلئ بطوننا بأكله . كل ذلك ممتزج بنعيم الجلوس بين الأعشاب الخضراء والأغصان الملتفة , وعند خرير مياه النهر وزقزقة العصافير .. وبين تأمل وبهجة , وعند سكون وحديث ..

وبعد جولة سريعة ترددنا فيها مرارا حول المكان المناسب للجلوس وجدنا مكانا بديع الأركان , عليل النسمات , محتشما , بعيدا عن صخب شبيبةٍ أمريكية أو تبذّل أسرة من أسرها , لقد وجدنا المكان المناسب بعد عدة خيارات تركناها للصخب أو التبذل المذكور ...
أنخنا رحال التجوال , ونصبنا خيام السرور إذ وجدنا الزاوية المناسبة وسعينا إلى ترتيب حاجاتنا .ثم بادرنا إلى تهيئة جمر الشواء , وتركناه ليتوقد بينا كنا نتحلّق حول " زمزمتي " الشاي والقهوة وما بين " بيالة " شاي و"فنجان" قهوة , كعادة الجلسة السعودية التي لا تغيب أينما كان السعودي ..

وفور احمرار الجمر هب أبو عبدالله ليتولى الشواء , وهببتُ أيضا لأساعده .. ولأقطع وقتينا بالحديث. وضعنا سمكاتنا الموعودة , وبدأت الأدخنة تتهادى في صعود وخيلاء , وبدأت الرائحة الزكية تملأ منا كل نفَس , وبتنا نعد اللحظات الأخيرة للظفر بوجبة الشواء في أحضان الغابة بعد طول ترقب وانتظار .
وبينما نحن كذلك , والصغار يلعبون ويستكشفون .. إذ بامرأة من بعيد تتحدّر من الطريق الجبلي النازل تغذّ السير وتسرع كأنها تقصد مكانا ما أو أحدا ما .. واقتربت ثم اقتربت فلم نشك عند ذاك في أنها تقصدنا نحن .. حتى إذا ما بقي بيننا وبينها بضعة أمتار صاحت بصوت عالي تتهدّج أنفاسها كأنما يلحقها ذئبٌ أو دب ! :
Bear , Bear
كذبت سمعي وكذب أبو عبد الله سمعه , فتبادلنا النظر والسؤال :
Bear ?!
قالت :
Yes, there is a bear
وأتمت بأن الوقت يتقدم نحو المساء , وهو الوقت الذي تبدأ دببة الغابة في الانتشار , لذا على الزوار عادة أن يغادروا الغابة في هذا الوقت حسب تعليمات المنتزه ..وذكرت لنا أنها بالفعل قد رأَت دُبَّا يتجه نحو مكاننا وإياها ... وإنه لكبيرٌ جدا ..
لم يكن الأمر ليسمح لنا أن نتفرّس صدقها من توهمها , فالمسألة فيها دب الغابة , والسلامة خير من الندامة ولئن نترك شواءنا الذي كنا نترقبه أياما وجبة لنا في هذا المكان الجميل , خير من أن نصبح أنفسنا وجبة جميلة في جوف دب الغابة الكبير جدا ..
فما العمل ؟
العمل هو أن أجمع عيالي وسفرتي وزمازم الشاي والقهوة وما يلحقهما بسرعة البرق , ثم أكتنز وإياهم سريعا في سيارتنا , فنحن أثمَن من أن نكون وجبة شهية للدب !
أما أبو عبدالله فأشار لنا بأن لانغادر السيارة وأن نحكم إغلاقها , وآثر هو أن ينتظر قطعة السمك لتستوي قليلا فلعلنا ندرك شيئا مما تمنته أنفسنا من السمك المشوي , فظلّ يقلّبها على الجمر المتوقّد , ويتقلب هو الآخر فوق جمر الانتظار حتى تستوي . وعين منه على السمكة وأخرى نحو جهة الدب التي أشارت إليها تلك المرأة التي ولت هاربة , فلم نر بعد ذلك سوى غبار قدميها .. بعد تحذيرنا .
ثم مرت سيارة الأمن تؤكد مغادرتنا , كإجراء روتيني أو كإنذار بعد رؤية الدب عينه , ولا أدري حقيقة أيهما كان !
لبثنا في السيارة وقد أحكمنا إغلاقها دقائق يسيرة جدا حتى انتزع أبو عبدالله قطعة السمك بسرعة خاطفة من فوق قضبان الشواء التي تمسكت بأجزاء كبيرة من السمك المشوي , كأنما كانت على اتفاق مع دب الغابة لتكيد بنا وتبتزّ سمكتنا , أولكأنهما معا قد اتفقا والمرأة على تنغيص سعادتنا . بعد ذلك سعى سعيا حثيثا نحو السيارة لنفتحها له فتتلقف ما تبقى من قطع السمك المشوي , وليأخذ هو مقعده ويدير مفتاح السيارة فننفذ بجلودنا . إلى خارج المنتزه ..

ينتثر ما يقدر بـ 500 - 600 دب أسود في المنتزه الوطني لجبال الدخان , وبمعدل دب واحد لكل ميل مربع تقريبا , لذلك لم نستبعد أن يكون الدب منا غير بعيد . ولم نفكّر إذ ذاك أن نستدير برؤوسنا لنراه على الهواء مباشرة , أو نلتقط له صورة تاريخية تجمعنا به بطبيعة الحال , وإنما كان همنا الفرار والخروج من الغابة وقد أوشكت ظلمة المساء أن تتوغل فيها !
لا بأس !!
أمّلنا طويلا في جلسة الشواء غير أن الدب أو المرأة - لا أدري أيهما السبب ! – قد أبيا إلا أن لا ننعم بها ..
وحسبنا الله ونعم الوكيل ..
ويبدو أن مقطعا أخيرا من جبال الدخان قد تبقى !

هناك تعليقان (٢):

غير معرف يقول...

رائعه القصة والأروع اسلوبك
بارك الله فيك
والى الامام

غير معرف يقول...

والله القصة مبهرة ومشكوووووووووووووووووووورة يا (::)

:)