الاثنين، ٧ أبريل ٢٠٠٨

مواجهة مع البوسفور !

صيف 1410هـ/1990م

إِهْداءٌ إِلى أُمِّ عَبْدِالرّحْمَنِ
وِإلى كُلِّ الذِّكْرَيَاتِ الجَمِيلَةِ التِي كَانَتْ مَعَهَا ..







مِن شُرفَةِ الشّقةِ الجبَلِيّةِ فيْ أُورُوبّا ..

اتخَذتُ أرِيكَةً مُرِيحَةً ..

ارتَشَفتُ كُوبَ الشّايِ السّاخِنِ

ثمَّ تَأمَّلْتُ قَارَّةَ آسْيَا أمَامِي بِكُلّ اطْمِئنَاانٍ ..






كذلك كان شأني في استانبول ..
فقد وفّقت ومن رافقتهم في إطلالة سكنية هي إلى الحلم أقرب ..

استانبول مدينة يحدوك إليها تاريخٌ وجمالٌ وتراثٌ عريق ..
وأنفاسٌ من البشر يحبوننا ونحبهم , رغم محاولات تقطيع الأواصر ..


بدت لي استانبول أول ما هبطَت الطائرة مدرج الطيران كخليطٍ من مدينة عربية وأوروبية.
فالناس فيها تختلط أعراقهم فتنزع حينا إلى الملامح العربية , وحينا آخر إلى ملامح الأوروبيين ..
في ضحى يوم الوصول آثرنا السكنى في إحدى الفنادق ريثما نجد سكنا آخر , هو أكثر راحة لعائلة بل عائلتين بل ثلاث !
أما وقد استقبلنا الفندق ذلك اليوم بانقطاع التيار الكهربائي , كأنه يستعجلنا البحث عن مأوى آخر .. فقد فعلنا !
إذ سرعان ما وجدنا شقة رائعة تطل على البوسفور .
وما كان إلا زمانا محدودا حتى انتقلنا إلى شقة البوسفور , ولقد كانت هذه الشقة في حي من أحياء استانبول الأوروبية .

وفي الطريق إلى موقعنا الجديد مررنا على شريط الشارع المحاذي للمضيق والمهيأ للمشاة والزائرين , والذي هو بلا شك متنفس استانبول على البحر , وإطلالتها على شقها الآخر .. الآسيوي ..
والناس في الطريق أشكال وألوان : الكبير والصغير .. المرأة والعجوز .. الشاب والشيخ .. يمشون في نشاط .
وصلنا إلى موقع سكننا , قبلتنا الارتفاع الجبلي تتسلقه السيارة التي تقلّنا في طريق متعرج وانحدارات حادة هي سكك الحارة الاستانبولية , حتى وصل بنا المقام إلى عمارة تعلّقت , وأبنية أخرى كثيرة , على جانب من الجبل , تطل بشرفاتها الواسعة على جهة المضيق ..

قادتنا أقدامنا عبر سلم طويل إلى شقة علوية , وما أن دلفناها حتى استقبلنا مشهد من أروع ما يمكن أن تكون المشاهد , وإطلالة من أبدع ما تكون الإطلالات .
وقد أجاد مهندس البناء الحاذق ؛ إذ جعل مدخل البيت , ومجلسه وصدره منشرحا إلى شرفة عريضة تقابل البوسفور , وترقب ضفة القارة الآسيوية كبرج مراقبة , بل قل كشاشة عرض سينمائي ساحر للطبيعة بل حي .. والسفن العظيمة تعبره نحو الاتجاهين في كل زمن . لقد كانت شرفةً علويةً شرقيةَ الجهة , قِبَل إطلالة الشمس الصباحية . تشرق كل يوم كأنما باتت ليلها مختبئة خلف مرتفعات آسيا , ثم تعود على استحياء لترتفع رويدا حتى تنعكس بحدة وسطوع على صفحة المضيق الرقراقة , لا يشق مرآته إلا السفن والناقلات الضخمة والقوارب . وتعكس السفن والقوارب أيضا شعاع الشمس ثم تكسره إلى كسيراتٍ من أشعةٍ براقة متفرقة , فتبدو كألماسة عملاقة ألقيت في بحر كبير .

وفي هذه السكنى وعبر هذه الرحلة اكتسبنا دروسا في عوائد الأتراك وسلوكهم ؛ فمن خلالها استطعنا أن نتعرف قدرا كبيرا من حياة الأتراك ..
لقد اعتاد بعض أهالي استانبول أن يؤجروا مساكنهم في الصيف للسياح فيخلونها ثم يأوون إلى أقاربهم كما يفعل كثير من أهل مكة أيام الحج ومواسم العمرة , ولقد كنا رأينا قبل ذلك عند البحث منزلا تركيا , استقبلتنا فيه أسرة صغيرة تسكنه , وقد تزين بالأثاث التركي التقليدي الجميل , كان هذا المنزل خيارا آخر للسكن , غير أن اختيارنا وقع على هذه الشقة ( اللقطة ) !
انطلق أطفال الرحلة يستكشفون المكان لكننا عاجلناهم إلى غلق الشرفة المعلقة على الجبل حماية لهم من ارتفاعها العالي , ثم انطلقنا نستكشف معهم المكان .

لقد كان المسكن التركي أنيقا , جميلا منظما , نظيفا معطرا , يجمع بين فخامة الذوق الشرقي وأناقة الذوق الغربي .
ويُظهر البيت براعة صاحبته في الإدارة المنزلية , إذ كان يخلو تماما من حاجياتهم الخاصة , وفي الوقت نفسه هو معدٌّ تماما بما يحتاجه الساكن السائح .
وحينما تفتح أبواب خزانات الغرف تفوح منها رائحة الزهور العطرية قد غلّفت بعناية في مغلفاتها الأنيقة والخاصة .. ووضعت فوق عدد وافر من الأغطية واللحافات النظيفة جدا وبينها لحاجة المسافر الساكن واستخدامه ..
أما المطبخ فقد هيئ بنظافة وعناية , تزينه لمسات فنية دقيقة ولطيفة كلطافة نقوش قماش (الدانتيل) الذي يستر نافذة هذا المطبخ حين يتثنى بأناقة ورقّة ودلال عند هبوب نسيم البوسفور على مساكن الجبل ..
وبدا لنا أن هذه الأسرة تعيش وضعا ماديا جيدا , ولست أدري ما إن كان متوسط دخل الفرد جيدا في تركيا , وما إن كانت هذه الأسرة نموذجا للأسر متوسطة الدخل , فقد كان البيت معدا بتجهيزات جيدة .
ملحظٌ وجدته في استانبول , ووجدته كذلك في هذه الشقة وهو صور مؤسس دولة تركيا العلمانية " كمال أتاتورك " المنتشرة ؛ فلقد رأيناها في أماكن عامة كثيرة , كما رأيناها معلقة في إحدى غرف هذا المسكن !!
من المواقف الطريفة التي واجهتنا أول وصولنا أن إحدى حقائب السفر قد تخلفت في مطار السعودية , وقد كانت الحقيبة تخص والدتي , وبها كل ما تحتاجه في السفر , ولم يكن لدينا من حل سوى أن يتعرف أحد من طرفنا على الحقيبة في أرض الوطن , ثم يرسلها عبر أقرب طائرة إلى استانبول . لقد قام أخي في السعودية بالمهمة بعد أن هاتفناه مستنجدين . وفي المطار أشار أبو يوسف بسهولة إلى الحقيبة بين عدد من الحقائب , ولما سُئل : كيف تعرفت الحقيبة ؟. قال : وكيف لا ؟ إنني أجد فيها رائحة أمي ! لقد كانت مهمة التحري والبحث بهذه البساطة والطرافة , ولا أدري كيف استجاب موظف المطار لمثل هذه الحدس اللطيف !! ثم لا أدري ما إن كانت هذه إحدى طرائف أبي يوسف , والعهدة عليه : ) ..

وللحديث تتمة .. عن القصر السليماني وبورصة وترابيا وعن جزيرة الأميرات وعجوزها التي استلمتنا بالتعنيف والتوبيخ لأمر ما مثير سأذكره لاحقا ..



.....................................

الصور : الثالثة والرابعة و الخامسة من المجموعة البريدية " خلاصة "

هناك ١٣ تعليقًا:

شهيدة يقول...

ما أستطيع قوله .. انني لا استطيع ان اصف ذاك الشعور الذي تأخذني به كلماتك وجميل وصفك يا استاذتنا حين اقرأ


ليتك تضمني هذه الروائع كتابا ..


سلمتِ .. وننتظر القادم بشغف

رحيل يقول...

حضوركم أنفاسنا التي تحيا بها الكلمات ..
وحرفكم مدادُنا الذي نسطّر به الذكريات ..
وإطلالتكم نبض الأحبار ووقودها !

حييتِ عزيزتي شهيدة
شاكرةً لكِ الوفاء.

غير معرف يقول...

كنت في السابق
أحدثك كثيراً عن رغبتي في زيارة تركيا
والآن وبعد هذه الأوصاف والجو "الحالم" الذي عيشتني اياه هذه التدوينة !

فلا عتب إن وُجدت تذاكر الرحلة بين أيديكم يوماً ما :)

غير معرف يقول...

" وأنفاسٌ من البشر يحبوننا ونحبهم , رغم محاولات تقطيع الأواصر "

انجذبت من الأسطرالأولى ، ذلك الخليط من أوروبا والعرب.. انخلطوا في بوتقة الإسلام ، فياله من دين..

أستاذة ترفق إلى الإبداع حيث وجد..

فقد وجدته هنا ، ومبارك عليكم هذا اليراع ، والله إني لظننت أنكم تنقلون ، منأحد الكتّاب العالميين، سامحك الله وسامح يراعك الضنين.. بل ليسامحني الله حين كنا عن أساتذتنا من شغلين بالقيل والقال عن هذا السلسبيل..

لي عودات.. مع هذه المدونة.. ولي أسئلة إن يسر المولى ذلك..


تليميذكم / رحــّـال.

منال الروح يقول...
أزال المؤلف هذا التعليق.
الخنساء السلمية يقول...

يا سلام ..
شكراً لكِ شهيدة أن قدتني إلى هنا ..!

ترفق هنا ؟

أستاذتي أستمتعت بل غرقت في المتعة هنا ..!
ذكرتني بتلك الديار وكأنني هناك الآن ..
ربما حاولت تجميع الفكر لأسطر ماعلق بذهني منها بعد متعتي هنا .. ولكن المؤكد أن قلمي لن يجاري يراعك الباذخ الماتع ..

عاطر سلامي وتحيتي ..,

سأعود مراراً ..

غير معرف يقول...

صباح الخير رحيل ..

أسرتني مواجهتك مع البسفور ..
تذكرت تلك الرجلة التي قضيتها في تركيا قبل سنوات .. كنت وقتها في عامي العاشر .. لكني الآن أذكرها بكل تفاصيلها ..
بحرها .. هواءها .. مناظرها.. قصورها ، حتى طعم الآيس كريم الذي أدمناه هناك صباح مساء وكأننا لم نره من قبل ..

أحبها .. وأزعج أبا الأولاد الآن في ضرورة العودة لها ..

عموما ..
مستمتعة جدا بتناول قهوة الصباحية من على شرفتكم في مواجهة البسفور ..
ننتظر البقية

رحيل يقول...

حكاية

يقول المثل الشعبي :
" يامن شرى له من حلاله علة "

أشبه ما يكون :)

عطرتِ الأحبار حبيبتي ..
أهلا وسهلا بك ..

رحيل يقول...

الفاضل رحّال
أهلا وسهلا بك في أحبار مسافرة

........
بل سامحك الله حين أسبغت على المدونة ما ليس لها ..
وما نحن إلا على أعتاب الكتابة ,
نستجدي الإبداع , ويستعصي علينا ..

مرحبا بكم ..
وبانتظار ما تجود به من أسئلة ..

رحيل يقول...

كاتبتنا الكريمة
الخنساء السلمية

حييتِ أهلا , ووطأت سهلا ..
أبهجني حضورك .
وودتُ لو بسطتِ ما لديك من ذكريات استانبول ..
فبحروفك سيتألق الموقع جمالا وإشراقا ..

سلمت لنا الخنساء , وسلمت لنا التباريح ..

والأحبار ستزداد حبورا بعودتك :)

رحيل يقول...

ضيفتي الكريمة

إيمان
آمل أن تكون كلماتي قد أنعشت عبق ذكرياتك ..
ثم اختلط عبقها مع قهوتك الصباحية
لتعيشي أبعاد الماضي الجميل ..
وأما آيس كريم استانبول وأكواز الذرة فيها فتلك قصة أخرى .

زرت عالمك الوادع الجميل
"بوح النفس"
وأمنّي نفسي بالاستمتاع بحروفه ..

كوني بقرب ,,

غير معرف يقول...

رحيل

دام مدادك يمتعنا بسياحة صاغها فكرك بأسلوب مذهل جميل ( ما شاء الله تبارك الرحمن )

ولا حرمنا من يمينك التي امدتنا من يراعك الزاكي أمتع اللحظات والذكريات

حلقت بنا سواح بقلوب تقفز جذلى بين سطورك الباهرة نجوب أرض الرحمن في القطع المتجاورات من جولاتك الماتعة

فكم أنتِ فخر لنا ياحبيبة وكم هو شرفٌ ان أنال من حروفك الماسية إهداء

وإن كنتِ أهديتني مقال فقد أهديتك قلب أخت مخلص محب داع بالخير وبسعادة الدارين

فلك مني أطيب تحية

أختك / أم عبد الرحمن

رحيل يقول...

أم عبدالرحمن

أسعدني حضورك يا غالية ,
وأبهجتني كلماتك الطيبة ..

إن هذه الأحرف تجعل من ذكرياتنا
واقعا نؤوب إليه كلما حنت الذكريات
إلى الأشخاص والأحداث والأماكن ..

وإن كان اليراع قد أجاد وأبدع ,
فمن إلهام لحظاتٍ سعدت بصحبتك ..

كوني بقرب ,,