الأربعاء، ٦ فبراير ٢٠٠٨

هنا القاهرة ..

أن تشاهد صورة فوتوغرافية مكتظة
ثم تقفز إليها فتكون ضمن أحداثها الصاخبة
هذا تماما ما تشعر به حينما تكون في القاهرة !

القاهرة تلك المدينة التي تعتلج , وفي رواية شعبية ( تعتجل ) , فيها المدنيتين القديمة والحاضرة
والناس على مختلف أطيافهم : مستوياتهم وأمزجتهم وتوجهاتهم .
كل ما فيها يتعانق عناق النيل أرضها الزاخرة .

ست رحلات إلى مصر , لم توجِد لدي اكتفاءً من أرضها ,
بل شعورا بأني قادمة إليها مرة أخرى !

في ليالي القاهرة الصيفية يطيب النسيم الرطيب ,
وتبدو كأنما هي المدينة التي لا تنام ,
فالناس في الطرقات منتشرون إلى ساعة متأخرة قبل الفجر,
و( كوبري ) قصر النيل شاهد من أكبر الشهود ..
حتى إذا ما قارب الوقت آذان الفجر , ارتفعت التلاوات من المآذن* ..
وهدأ الناس !
ولا تعليق !

إن المسافر إلى القاهرة خديج الإقامة فيها مالم يطلّ مسكنه على النهر الطيب .
وإطلالة من شرفة أو نافذة على النيل بعد عناء يوم طويل تنسيك كل عناء .
يخيّل إليك كأنما هو الكحل الذي تتزين به العاصمة العربية .
وكأنما القوارب واليخوت التي تمخره ذهابا وعودة عيونا تائهةً في سحر الأجواء ,
غير أن الصخب يبدد هذه الأجواء الساحرة !
وليت قاهرة الأزهر تنفي خبث المعازف والمجون عن متن بعض يخوتها ..
ولكم يعتصر الفؤاد من هذا وأكثر ..

ولا أدري حقيقة ما الذي يمكن أن أبدأ به حين أتكلم عن مصر العاصمة ؟
عن ريفها أم عن حاضرتها ؟! عن ليلها أو نهارها ؟!
عن ماذا حقا ؟

ولكن يحضرني الآن مشهد هو من أروع المشاهد في مصر ,
حديقة الأزهر ...
تلك الحديقة التي بنيت على مشارف مصر القديمة ,
وتنظر من بعيد إلى حداثتها وجدتها ..

يوم زيارتي لحديقة الأزهر كان الجو كعادته صيفيا قاهريا رطبا ...
لم يكن كحرارة هجر , ولا كرطوبة ليل واجهة الدمام البحرية ..
لقد كان منعشا طريا .

تمتد الحديقة على تلة مشرفة على القاهرة .. قريبا من مشيخة الأزهر ,
ومن العجيب أن كانت هذه الأرض فيما سبق
مكبّا للنفايات إلى أن أقامت مؤسسة الآغا خـان للثقافة** مشروع الحديقة
على أن تسلمه للدولة بعد كذا من السنوات .
فكانت الحديقة كما وُصفت حديقةً ,
ومن أجمل مازرت على الإطلاق , موقعا , وعمرانا وتنظيما .
لفت انتباهي أول ما دخلت قائمة التعليمات التي تقضي بمنع أمور ومراعاة أخرى .
وأوّل تجوّلي أُخذتُ بجمال تصميمها ورونقها ,
ولم يطل بي التأمل حتى وقعت عينيّ على إطلالة
هي من أجمل الإطلالات على مدينة القاهرة وأكثرها سحرا ,
حينما تتجه في حديقة الأزهر إلى حافتها المرتفعة على تلةٍ صوب القاهرة القديمة ..
فترى أمامك عددا من المآذن التاريخية الضخمة , تحكي بشموخها أحقابا من التاريخ , وتبعث سطورا من المقررات الدراسية التي سئمنا تكرارها وحفظها , لكنها اليوم تتجلى خبرة مفعمة بالحس والخبر وتلامس الوجدان , بل تبعث فيه شعورا بالاعتزاز ورغبة عارمة في التعلم والاكتشاف .
إنها الخبرة المباشرة !

وتتراءى أمامك من بعيد ..وعلى ارتفاعٍ قلعة صلاح الدين الحصينة , مستويةً على سفح ربوة جوار المقطم تشمخرّ بعز , ينخرط من بين أرجائها مجرى العيون إلى مسافات بعيدة أسفل الجبل وخلال الطرق ,
غيرَ آبهٍ بما جد من تقنيات نقل المياه .
وتمتد منها مآذن مسجد محمد علي باشا الرشيقة تذكرك اسطنبول .
كما تذكّرك مآذن مساجد الحصن الأخرى المتجملة بحلل المعمار الإسلامي الفريد عصورا ودويلات متفرقة من أعماق التاريخ الإسلامي .. وقريبا من تلة الحديقة حول المساجد تتناثر بيوتات صغار . ولا أدري أكانت المدافن أم أنها مجرد بيوت عتيقة , ويبدو أنها ما زالت مسكونة .. متراصة متقاربة تهبط وتعلو وتتعرج .. وتتخللها الجوامع ومساجد أخرى عتيقة وربما رأيت مآذن الجامع الأزهر ..
وبكل الروعة والجمال ,
وخلف ذلك كله تنبثق الأبراج العالية القابعة على ضفتي النيل , والفنادق الفاخرة بأشعة أنوارها كخلفية عصرية للوحة أثرية ..
ياللمفارقة .. ياللخيال ..
بل يا للواقع الخيالي والمفارقة المجتمعة !!

صعدنا عبر درجات منسّقة إلى مجمّع قد بني بعناية وحرفية ,
وزُينت أركانه بأصناف الفن المعماري الإسلامي ,
وقد تناثرت داخله أصناف المطاعم الراقية .....
اخترنا منها ماكان بعيدا عن اللهو وأصواته ..
وصعدنا أعلى المبنى الذي أثث بتصاميم شرقية فاخرة ,
وازدانت أدواره العلوية بنوافذ ذات طراز شرقي ومشربيات ,
وفي أعلاه وعلى زاوية منه مطعم فرنسي فيما يبدو ..
اخترناه لهدوئه , وما يوفره من خصوصية تناسب رغبتي في الاحتشام عن الناس .
وإذا بالمطعم يحتضن شرفة هي من أجمل الشرفات ,
وإذا بها تشرف على المنظر الذي وصفته آنفا ,
وإذا بصوت تلاوة عذبة تشق الفضاء حولنا تنطلق من أحد المساجد العتيقة قبالة الشرفة** ..
فيا لعذوبة اللحظات !!
اخترنا أن نحتسي فيها الشاي الأخضر
بعد أن تناولنا من قائمة المطعم ما رغبنا فيه عشاءنا تلك الليلة الجميلة ..

إن ظاهرة زفة العروس من الظواهر التي لا تتغيب عن السائح إلى مصر
في أي وقت وفي أي مكان ,
وقد كانت حديقة الأزهر أحد هذه الأماكن التي رأيت فيها عروسا مصرية بزينتها تزف بالدفوف ..
وخلفها جمع غفير من الأهل .
أقدر أن ذلك من عادات المصريين
غير أنني أتساءل ..
ألا يزنونها بموازين شرعية ؟
.................
* وإني هاهنا وإن كنت أصف الحال , لا أقر الممارسة , فالتزام القراءة عبر المآذن قبل الفجر مما يعد زيادة لا تقر في الشرع ..
**وكم تكشّف لي بعد ذلك حقائق غريبة كنت لا أعلمها عن هذه المؤسسة , لعلي أورد طرفا منها في المدونة .
*** قد يقال فيه ما قيل في قبله ..

هناك ٦ تعليقات:

غير معرف يقول...

رحلة رائعة لي عودة لبعض المسائل العلمية..

رحيل يقول...

على الرحب والسعة ..

أنتظرها , وأرجو أن لا يطول الانتظار ..

حياكم الله ,,

غير معرف يقول...

رائع موضوعك وقد ذكرتني مع زحمة مصر بزحمة الرياض !

أظنهما متقاربين :)
طرقنا السريعة هي سريعة بالإسم فقط !


عموماً أشكر لك تحليلك وانعطافك الرائع وتوجيهك من ناحية بعض عاداتهم التي لا بد من وزنها وزناً شرعياً ..

زادك الله بصيرة .

رحيل يقول...

الكريم / ـمة

همة

حياكم الله في أول هبوط على مدْرج الأحبار

وأما عن زحمة الرياض فحدث ولا حرج ..

وكل بلد لديه من العادات ما يحتاج إلى إعادة نظر وتهذيب ..

آمل أن تحضى الأحبار منكم بمتابعة ..

والله يحفظكم ,,

غير معرف يقول...

مصر لها نكهة خاصة من بين البلاد العربية ..

فمن نيلها الجميل إلى إلى شوارعها المكتظة بضجيج المنبهات وصراخ الباعة ..

لا يزال جزء من العبق يدور في ذكرتي ..

شكراً رحيل ..

رحيل يقول...

لا شك أن لمصر نكهة خاصة تتميز بها عن كل مكان ..
أهراام أهراام ... نداء الصحيفة
فوووول ( بمد مصري ) .. نداء عربة الفول
وأشياء أخرى كثيرة لا تجدها إلا في القاهرة
في زياراتي الأخيرة إلى القاهرة لحظت أن آذان مساجدها بدا مقتربا جدا ( في طريقة أدائه ) من آذان المساجد السعودية .

حييت تكوين ,,