الاثنين، ٢٨ يناير ٢٠٠٨

أيام دمشقية

1424هـ
من عبق أمطار دمشق

مختلطة بطين قلعتها العتيقة ..

ومن جوار الجامع الأموي

كان المدخل إلى السوق

العتيق العتيد العنيد ..

سوق الحميدية ..

ذلك الذي أقبلت عليه عشيةً ..


ثم كررت الزيارة ثلاث مرات خلال يومين ..

ولما أشبع نهمتي بعد !!

اقترح أبو عبدالله أن نزور دمشق في سفر عمل له إلى عمّان ،
ولم أبدِ شيئا من التحفز ، فضلا عن أنني لم أكنّ كذلك ..
وما عساني أرى؟

ذلكم السؤال الذي اكتشفت - بعد زيارتي -
أنني اعتليت به عرش المتعجّلين في أحكامهم ..

أتطلع دوما إلى الطبيعة الخضراء ،
ولم ترضني طبيعةٌ بعد جمال جبال الألب ..
ولكنني وجدت أن تلكم ليست الغاية ،
بل هناك أبعاد أخرى من الجمال يخبئها
التاريخ ، والعمارة ، والذكريات وأشياء أخرى .. أخرى


عزمنا أمرنا إلى دمشق ، وصوّبنا نحو الشمال ، نحو سورية ..
كان الاتفاق أن تقلّنا سيارة أجرة ، فكانت السيارة على أتم استعداد ،
يقودها سائق أردني تعرف على هيئته وفي كلامه صلابة أهل الأردن وجدّهم .

غير أنني أحمل عقلية التوجّس أحيانا ممن لا أعرف ..

كان السائق يتكلم مع أبي عبدالله يذكر له أنه ذاهب إلى دمشق
لقضاء حاجة له هنالك ، وأنه على موعد مع أحدهم .
ذكر لنا ذلك بلهجة جادة صارمة !
لفت انتباهي تردد نظره إلى المرآة كأنما ينظر إلى سيارة خلفه ،
بل ينتظر سيارة خلفه .. كأنه على موعد معها . إن مثل ذلك ليغذي التوجس الذي أشعر به ،
ويشعر به كل سائح في أي مكان على وجه الأرض ،
يخشى أن يكون لقمة مستباحة ..
تردد النظر ثم مالبث أن قال :
هذا فلان أعرفه ، هو ذاهب أيضا إلى دمشق ..

في ناحية الطريق
أشارت لوحة صغيرة ذات اليمين
إلى بلدة تبدو في أعماق الطريق عددا من الكيلات ..
اسمها بُصرى ..
ذكرت أنها تلك التي مر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
والتقى فيها بَحيرا .. وحُفرت في الذاكرة .
كلما مررت بهذا المقطع من السيرة بعد ذلك
أو سمعت به تخيلتها ،
وكأنما كانت اللوحة ماثلة وقت مروره صلى الله عليه وسلم ..


عند موظف جوازات الأردن تعمدت النزول مع زوجي
لئلا أبقى وحيدة في السيارة ... وجاوزنا المرحلة الأولى
..أما في المرحلة الثانية وعند جوازات سورية
اقترح السائق بلغته الصارمة على أبي عبدالله أن ينزل وحده ،
وينهي إجراءاته سريعا ..
ونزل السائق بدوره من السيارة .. ووقف بعيدا


هنا اطمأن زوجي ومضى ينهي الإجراءات ، واطمأننتُ ..
ولكن ما لبثت أن عاودني الخوف ،
حينما لحظت أن سائق الأجرة ينظر ذات اليمين والشمال ،
ثم يقفز سريعا إلى سيارته التي أنتظر فيها !
وبغير مقدمات ، أو ترك أية مهلة أدار المفتاح ثم امسك بمقودها يحركه ..
هنا أيقنت أنني في قبضة فك مفترس !!
كادت أنفاسي تنقطع ..

تقدم بها قليلا ليوقفها في مكان آخر .. ثم عاجل بالنزول ..
يبدو أن مكانها قد زاحم مرور سيارات أخرى ..

هنا أطلقت كل ما في صدري من هواء ، كأنما أطرد القلق ..
ثم تنفست بأقصى ما لدي من قوة
ثم لبثت أنتظر .....

..
عاد أبو عبدالله ضاحكا :
حاول أن يبتزني موظف الجوازات وما استطاع !
تعالت ضحكته ، وسائق الأجرة باق على تجهمه ،
فقلت في نفسي : عياذا بالله ما هذا الرجل ؟! ..
تكلم الرجل أخيرا مخبرا أن له قرابة في السعودية ..

كان الوقت يشارف على العشاء حين دخلنا دمشق ،
وها أنا أرى دمشق بعد غياب طويل ،
والحقيقة أنني في زيارتي الأولى
لم أعِ شيئا مما حدث ولا أذكر شيئا مما رأيت ،
ذلك أنني كنت طفلة دون السنتين ،
كل ما أعرفه ذكريات والديّ التي يكررانها علي كلما جاء ذكر سورية .

وفي طريق واسع امتدت على جوانبه سلسلة من العمارات القديمة ،
والبنايات المتآكلة ..وصل بنا الطريق إلى وسط دمشق .
وبجوار أحد أرصفة الطرق المزدحمة بالمشاة توقّف سائق الأجرة ..
حيث لا يستطيع مجاوزة ذلك المكان لأسباب .. يا للغرابة ! *


اضطررنا إلى توقيف إحدى سيارات الأجرة ،
نسأله أن ينقلنا إلى الفندق الذي تم لنا فيه الحجز .
وفي الطريق استوثقت أبا عبدالله عن الفندق فقال :
حسب ما ذكر لي هو أفضل ما في دمشق ..


توقفت بنا السيارة أمام فندق قديم جدا ..
لم تتأخر ملامح الإحباط عن اتخاذ مواقعها على وجوهنا ..

ثم مالبثنا ونحن نستل حقائبنا من سيارة الأجرة
حتى رأينا جمهرة كبيرة من مرتدي الملابس الرسمية أمام بوابة الفندق ..
كأنما كان وفدا رسميا .. أو مؤتمرا , وقد كان ..
حتى كدنا نصدق أن الفندق الذي نزلناه هو أحسن ما في البلد ..


قادنا الخادم إلى حجرتنا .. ثم دلفناها لنرى أثاثا قد عفى عليه الزمن ..
وإذا بفندق الخمس نجوم .. يتراءى أمامنا بنصف نجمة .. ياللخيبة ! ..
إن ما أضحكنا هو ما ألصق على مرآة التسريح ..حتى كدنا نقع ..
لا أدري لشدة التعب أم الإحباط أم السخرية أم لهم جميعا ؟
لقد كتب على الملصق :
عزيزي النزيل :إن كنت ترغب في اقتناء شيء من أثاث الغرفة ، فأخبرنا للتفاوض على الشراء
أو شيئا من هذا القبيل ..
يبدو أننا في سوق الحراج !


اتضح لنا - بعد ذلك - أن البلد بها عدد من الفنادق الفخمة
إلا أن السماسرة يعاجلون السائح الذي يجهل البلد ليسبقوا إلى أكل أمواله لقمة سائغة ..


في أول جولة وسط دمشق ، توقفت بنا السيارة عند السوق ،
أمام قلعة صلاح الدين الشامخة .
وفي خطوات تكسوها التوقير والإجلال جوار القلعة
شعرنا أننا أمام موكب صلاح الدين رحمه الله ،
فتراءت أمامنا هيبته وصولته وجولته وعزه الذي عزَّ به الإسلام والمسلمون ،
أطرقنا يحدونا الشعور بالشوق إلى عزٍّ وتمكين للمسلمين ..

كان الناس ينتشرون بعد أداء صلاة العشاء من الجامع الأموي
يخطرون حاجزا قصيرا أمام بابه ،
تلكم كانت جزءا من معمار بوابات المساجد في كل من دمشق والقاهرة ،
وبدؤوا ينتعلون وبعضهم يفتح مظلته ، ذلك أن المطر كان ينهمر .
لقد كانت الأجواء على قلوبنا أروع من الرائعة ..

كنا قد أدركنا منذ الخروج أن صلاة العشاء ستفوتنا في الجامع الأموي
فلم يكن الأمر مفاجئا ،
غير أن الحزن أصابنا حين رأينا جموع المصلين ..
وددنا لو كنا معهم في خروجهم .
وما كان لنا من بد أن نيمم صوب السوق القديم .. سوق الحميدية !


مشينا ذات اليمين والشمال في طرقات حول الجامع ..
ثم وجدنا أنفسنا أمام إحدى بواباته الرئيسة يقابله السوق ..

لم يكن السوق سوقا للتحف والأثريات وحسب ،
وإنما كان سوقا بكل ما تعنيه هذه الكلمة :
بضائع محلية وأخرى مستوردة ، أقوام من البلد وسياح من خارجها..
المنظرُ لا شكَّ شامي .. والعبق شامي .. بل الصوت كذلك ،
فما إن أقبلنا عليه حتى وصل إلى مسامعنا صوت الإنشاد الدمشقي القديم ** ينطلق من أحد الدكاكين المجاورة*** ،
كان كأنما يطرز المشهد ،
فيبدو لنا لوحة رائعة من أعماق أعماق التاريخ ..


وفي طريق ابتلت تربته في بعض النواحي بمياه الأمطار ،
اصطفت على الجانبين دكاكين مرصوصة .
هذه للبياضات والمفارش ، وتلك للتحف وقطع الموزاييك والأرابيسك،
وتلك للجلابيات الشامية التي نجدها في أسواقنا بأغلى الأثمان
وأخرى قد اكتظت بأنواع الأعشاب
والعطريات والزهورات والتوابل الشرقية ..

اختلط ذلك كله ، ونحن نمشي في ذهول ..






..........................
* التقينا سيارة الأجرة مرة أخرى في طريق العودة
وقد أثبت سائقها من خلال موقف أخوي شهامة كبيرة ،
عرفنا من خلالها طيب معدن أهلنا في الأردن .
** قصائد وعظية تنشد بغير معازف .
*** الدكاكين جمع الدكان , والدكّان كلمة عربية تعني : " المتجر "وفقا للمعجم الوسيط .

هناك ١٦ تعليقًا:

غير معرف يقول...

بمجرد رؤية العمارة المتميزة بها بيوت دمشق القديمة |ينتابني دائما شعورا وحنيناللأصالة|


[دموعي سبقت قلمي ياأم عبد الله ]


وها هو قلم شيخنا |علي الطنطاوي| "رحمه الله"

[ينضخ] من جديد

نمطٌ قصصي قريب من النفس وأحداثٌ عشتها كأنني أرى أبطالها رأي العين !!!


رفع الله قدركم ..

ووفقكم إلى المـــعـــالي .. آمين

رحيل يقول...

بسم الله الرحمن الرحيم

أسفرت وانورت .. واستهلت وامطرت

أهلا بشريكة الذكريات ..

جمعتنا مواقف سفر كثيرة ..
ربما تعينني الذاكرة والأحبار أن أصوّر بعضها ها هنا ..

فتكمّلي منها ما أهلكته أيامي نسيانا ..

أسعدتني كلماتك غاليتي - الثريا - أيما سعادة ..

كل ما أرجوه هو أن تعودي هذا الركن اليتيم من الشبكة ..

ثم تتركي فيه من بصماتك الفريدة ..

وكما يقول ( الحساويون ) :
أوّلن مهوب تالي : )

حياك الله ..

رحيل ~

غير معرف يقول...

دواتكم ممتلئة والدتنا الكريمة ..
أرخيتم القلم ؛ ودعوتموه يسكب أحباره المتوهجة ..

..

أسعدتني هذه التدوينه ..

تكوين*

؛

الخلوق يقول...

أردّت أن أسجل المرور فقط ..

كما أود أن أشكركم على إنشاء بيت خاص بكم يمكننا زيارته ، عسى أن تكرمونا بحروفكم الصادقة !

سجلوني هنا متابعاً ..
أسعدكم ربكم ..

غير معرف يقول...

بسم الله الرحمن الرحيم

أستاذتي الغالية ترفّق
سعيدة جداً بوجود مدونة نأتيها كل ما شدنا الحنين لقلمك

أيامك الدمشقية رائعة وسلسة
سأكون متابعة بإذن الله لك ومعك


أم الأسامة

غير معرف يقول...

.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
لا تعلمين ياسيدتي مقدار سعادتي .. بركنك اليتيم هذا -كما نعتيه-..

أثق أن لديك الكثير والكثير..وفقك الله واسعدك..وجعل قولك وعملك خالصا لوجهه..


الممتنه لك: ديـوان

رحيل يقول...

الآن تنفست بعد اختناق ..

الحمدلله ..

وسأتمكن - بحول الله - من الرد على كريم حروفكم ..

رحيل ~

رحيل يقول...

تكوين

أضاء وجودك الآن عالمي الافتراضي ..

كما أضاء من قبل عالمي الحقيقي ..

رحلة برية موفقة ..

وأسعد الله أوقاتك في ضرما ..

والدتك
رحيل ~

رحيل يقول...

أخانا الكريم :
الخلوق

حللت أهلا , ووطأت سهلا ..

ولعل أحبارنا تحضى بأن تكون مما تُحمِضون به خلال مذاكرات طبية ..

وفقكم الله ,,

رحيل يقول...

العزيزة أم الأسامة

جميلٌ أن تجد هذه المدونة أصدقاء يحنون إليها حينا بعد حين ..

آمل أن تكون بقدر ما تظنون وأكثر ..

شاكرة حضورك البهي .

رحيل يقول...

أختي ديوان

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ..

أسعدتني كلماتك الطيبة , وأثارت لدي الفضول لمعرفة من تقف خلف معرف ديوان , فلعلها معرفة سابقة ..

تقبل الله دعاءك , ورزقكِ بمثل .

أنتظر إطلالتك ..

غير معرف يقول...

السلام عليكم ...

جميل ما خطته يداك
متابعة لكم

أختكِ لبنة

رحيل يقول...

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

تسعدني متابعتك ..

حياكِ الله لبنة ,,

غير معرف يقول...

أيام دمشقية

استمتعت كثيراً بقراءتها ,

فتصويرك للمكان , رائع جداً

::

بورك فيكِ عزيزتي رحيل ~

: )

رحيل يقول...

وفيك بارك الله ..

أسعدتني زيارتك .
وأبهجني ما لقيته من رضا .

وددت لو قيدتِ اسما ولو مستعارا للتواصل ..
وحياك الله بالاسم أو بدونه ,,

غير معرف يقول...

السلام عليكم