الأحد، ٦ صفر ١٤٣٠ هـ

بتسبيرغ

تلُّ السناجب .. حِلَّةُ* اليهود !
14218 - 1420هـ
1998 -1999 م


هدوءٌ وتعقيد .. كلمتان تلخّصان انطباعي عن مدينة بتسبيرغ ..
سكونها , وتعقيد تركيبها العِرقي والجغرافي والعمراني .

يخترق مدينة بتسبيرغ ثلاثة أذرع من الأنهار : نهري آليقيني وموننقالا , ومرْجهما** المكوّن بعد ذلك نهر أوهايو ..
ربما كانت هذه الأذرع الثلاثة سببا غير مباشر في تسميتها بالمدينة ذات الجسور The City of Bridges " فهي تضم 446 جسرا .
كما تسمى مدينة الفولاذ لمكانتها كقاعدة لتصنيع الفولاذ في البلاد .
بتسبيرغ ثاني أكبر مدن ولاية بنسلفانيا الأمريكية تضم مزيجا عرقيا متنوعا . وتتسم كثيرٌ من نواحيها بطابع البلدة القديمة , في مظهرٍ يرتبط بالعرق الذي ينتسب إليها ساكنو كل منطقة ؛ لذا كثيرا ما يميز عمرانها الأسلوب الألماني ببيوته المضرّبة بالأخشاب السوداء . ولا عجب إذ النسبة الكبرى في التركيبة السكانية يمثلها ذوو الأصول الألمانية .. ..
أما منطقة وسط المدينة " الداون تاون " وما يسمونه منطقة المثلث الذهبي the Golden Triangle فلها طراز آخر .. هو طراز المدن العصرية الأمريكية , إذ يتراص عدد كبير من ناطحات السحاب العملاقة في رقعة المثلث ..
ولماذا سمي بالمثلث ؟
لعل الجواب هو : لأنه يقع عند ملتقى النهرين أما وصفه بالذهبي , فلم أقف على سبب تسميته بذلك .
قبل أن يستقر بي المقام في إحدى ضواحي بتسبيرغ تكررت زيارتي إليها , وفي كل مرة كنت أجد فيها ملامح المدينة الأوروبية بطراز أبنيتها القديمة , وهدوئها الجاثم بثقله في ساعات الليل والنهار ..
بتسبيرغ مدينة أمريكية ذات طابع خاص , هي مع هدوئها تفاجئك بما لا تفاجئك به أي مدينة أميركية أخرى , في حدود ما زرت منها على أقل تقدير ..
وذلك للداخلين إليها من جهتها الجنوبية الغربية وبعد مغيب الشمس , إذ ما إن تصل إلى مشارفها حتى يستقبلك نفق طويل تحت جبل مرتفع كالحجاب يستر وسط مدينة بتسبيرغ تماما , فلا ترى منه شيئا , فتظن إذ ذاك أنها مدينة خالية من المعالم غير الاعتيادية .

إن الطريق إلى وسط المدينة قبل دخول النفق كمثل أي طريق سريع , ولكن ما إن تشق دربه الضيق وتمر بجدرانه الصماء حتى يتراءى لك من فتحته البعيدة بريق غير اعتيادي , ثم ما تلبث حين تخرج من فوهة النفق أن تكون في أحضان مكان آخر تماما .. أنك ستكون إذ ذاك أمام منطقة الأنهار ثلاثة . . وتكاد تنكبُّ عليك أسرابٌ من ناطحات السحاب شاخصة فارعة قد تكوّدت وتكوّمت*** كأنما تلوذ الواحدة منها بالأخرى , وتزينت بكل ما لديها من حلي الإضاءة الكهربائية فانعكست أنوارها المنسابة ببهدوء على أسطح الأنهار لتتلألأ ويزداد فوق ذلك بريق المكان ووهجه . إن هذا المشهد ليوحي إليك بأنك أمام عرس لا تنقطع أفراحه كل عشية " بتسبورغية "..
مشهدٌ مبهر ! لا تمل إذ تقطن المدينة المرور عبر النفق لترى هذا المنظر المدني البديع , وسبحان من أبدع وصوّر , وخلق الإنسان فعلمه ما لم يعلم ..

أما بعد الإقامة , فاكتشاف بتسبيرغ يحتاج إلى وقت طويل . لا شك أن أكثر مواقعها استثارة للاسكتشاف هو تل السناجب Squirrel Hill
فما سكويرل هِل هذا ؟
إن تل السناجب في بتسبيرغ هو حي يسكنه اليهود يقع شرق المدينة , يقيم فيه 33% من يهود المدينة , يمثلون نصف سكان الحي تقريبا , ولذا تجد فيه المطاعم والمدارس اليهودية الخاصة , كما يضم مركزا اجتماعيا لليهود يقيمون فيه أعيادهم ويحيون تراثهم وقضاياهم .

قد كانت لنا زيارة خاطفة إلى الحي . ولم نكن نخطئ أشكال سكانه المميزة جدا بألبسة اليهود وطريقتهم الخاصة في تصفيف شعورهم صغارا وكبارا , أو كما يسمونة البايوت أو البايوس ..
ولشارع حي تل السناجب أسلوب وطابع حياة لحظنا اختلافه شيئا ما عن المناطق الأخرى , لقد بدت تلك المنطقة تماما كأي منطقة لأقلية تختلف عن عموم المدينة .

وبعيدا عن يهود بتسبيرغ , قد لحظت أنه بالرغم من أن اليهود لهم نفوذ إعلامي واقتصادي في الولايات المتحدة الأمريكية إلا إن هذا النفوذ المسخّر لتلميع صورة اليهود وخدمة قضاياهم لم يفلح فيما بدا لي في طمس صورة اليهودي التي كانت تسيطر على الأوربيين فترة من الزمن , والتي يعكس بعضها رواية وليم شكسبير : تاجر البندقية ..
ومثالا لذلك أنني رأيت في طريق الجامعة واحدا من "دكاترتها " وهو يهودي ممن يتكلف تجميل الوجه اليهودي , يقمّ طريقها مع العمال في مشهد غريب لافت للنظر . ومع هذا المنظر الذي يشي بالتواضع والخدمة كانت تشير إليه إحدى الأمريكيات مكتفية بوصفه بـ " ذلك الرجل اليهودي " لقد كان ذلك النعت كافيا لديها للإشارة إليه بامتعاض ..
تلك الجامعة الكاثوليكية الصغيرة قد ضمت مركزا للهولوكوست يتم دعمه بقوة , وقد غذي في الأيام القليلة الماضية بـ 750 ألف دولار **** . إنك حينئذ لن تعجب حين تجد تعاطفا رسميا مع اليهود وقضاياهم ؛ إن المال والإعلام يفعلان ما لا تفعله الضمائر الحية حين تتضح الحقائق ويرتسم الواقع بالقعود عن العمل , فليت أسطري متى تخدم أموالُنا قضايانا ؟


ــــــــــ
* الحِلَّةُ : منزل القوم , وجماعة البيوت , ومجتمع الناس " الوسيط " , وهو من عاميِّنا الفصيح .
** مَرَج : الشيء مرْجا خلطه . وفي التنزيل " مرج البحرين يلتقيان " "الوسيط "
*** كَوَّدَ الشيء : جمعه وجعله كُثبة واحدة " الوسيط " وهو من عاميِّنا الفصيح ايضا ..
*** كوم الشيء : جمعه وألقى بعضه على بعض " الوسيط "
**** في ديسمبر من العام المنصرم 2008م , http://www.post-gazette.com/pg/08337/932160-100.stm

هناك ٣ تعليقات:

غير معرف يقول...

وأخيراً وجدت ما تمنيت أن أجده عندما أفتح متصفحي وأزور صفحتكِ
أمتعينا فنحن بشوق للمزيد
بتسبيرغ أسم ينقلني لذكريات ماتعه بصحبتكم : )
لا حرمتك (f)

غير معرف يقول...

بداية - مواصلة - رائعة أختنا الفاضلة..
و من الوهلة الأولى أعتقدت أن الحديث سوف يتجه إلى أحد مدن جنوب أفريقيا , و لكن أحساسي - معلوماتي - قد ضربت طريقها خطأ...
ملحوظة رائعة: أن تتنقل في الحديث بين أقطاب عدة و مظاهر مختلفة و في رقعة صغيرة , فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء وقد نلت منه خيراً كثيراُ..فنفق ثم ناطحات سحاب - ويهود بأشكالهم ثم دعهم لقضيتهم - ثم نظرة من فتاة ترمق يهودياً بعينها فيدوي صدى قلبها - كل هذه الأشياء تجعل للحرف ألف معنى وللكلمات حس راقي غير عادي ..
حفظكم الله ورعاكم
بإنتظار أخرى..

غير معرف يقول...

الحيز الصغير الذي جمعنا هناك أيام

تركت طعم جميل

بصحبتكم لنا ذكريات ولااا أحلى

لا وفقرات حفلة ليلة الوداع كانت

الأروووع تذكرين أم عبد الله ؟

ياااارب جمع الجنة

سلمت يمينك ياغالية

نوال