الأحد، ١٨ شعبان ١٤٣٠ هـ

من جنان الدنيا ... لوزيرن


١٤٠٥هـ/١٩٨٥م



كالحلمِ ,كالطيفِ الباهت , كالضبابِ الخفيف يواري جمال الطبيعة الساحر ..
صورة لوزيرن في ذاكرتي ..
تلكم البقعة السكّرية الصغيرة التي تلفها جبال الألب .. وتنثني البحيرة خلالها على استحياء
.. ويغرد الطير .. ويختال الإوَزُّ ...
ويطوّق السحابُ القمم المسودَّة .. كالفراء على أكتاف جبالها ,
يخيّل إليّ ضباب الصباح يتهادى على صفحة البحيرة يوشك أن يمسّها ..
ثم أعود لأتذكّر أشرعة القوارب تضفي مسحةً من خيال ..
وتمنح تذكرة الإبحار في بؤرة جمال .. في نقطته المركزية المركّزة ..
والطرقات تتسلق في هدوء وانتظام وانحناءات ..
والأكواخ تتراص كعناقيد العنب اللذيذ ,
واللونُ الأخضر .. ياللونِ الأخضر !! ..
هناك عيده ! ..
هنالك أدركت تماما كيف يدهامُّ الاخضرار !
حان وقتك يا لوزيرن .. لو يفصِح التعبير !!




لوزيرن ..

أي كلمة تصور جمالها !

أي صورة ضوئية تنقلك إلى واقعها !

......

أمام مبنى ضخم كان انتظارنا للحافلة التي ستنقلنا في رحلة سياحية إلى مدينة لوزيرن . إنه مبنى محطة القطارات في مدينة زيورخ الذي يتميز بمعماريته القديمة ، ويتضمن مساحات داخلية للتسوق .

كنا جلوسا بمواجهة الساحة المقابلة للمحطة نتأمل الشارع السويسري بكافة مكوناته ، حتى حانت ساعة ركوب الحافلة ، فركبنا ضمن مجموعة من السائحين الغربيين ، والذين كانوا في غالبهم من كبار السن ..

توجهت بنا الحافلة إلى خارج المدينة ، باتجاه لوزيرن .. حتى بدأنا في الصعود إلى جبال المنطقة ، وسط جو غائم وخضرة ناقعة اللون .. وشيئا فشيئا بدا لنا الريف السويسري كأجمل ما يمكن أن تقع عليه الأبصار من جمال الطبيعة .

حقا تملكتني الدهشة واختطفت عينيّ جمالُ السفوح الخضراء ترعى الأبقار عليها بهدوء وسلام ، ولم أملك حينئذ إلا أن أسبح الله .. سبحان الله .. سبحان الله .. سبحان الله .. ثم أتساءل في قرارة نفسي :

أي جمال في الطبيعة هذا ؟ .... إنه يكاد يفوق ما تستوعبه الحواس ..

وأي جمال ستكون عليه جنة الفردوس ؟! ..

إن كانت هذه الطبيعة الأرضية الفاتنة شيئا لا يذكر عند جمال الجنة ، فكيف ستكون الجنة ؟

لاشك أنها مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ..

لاشك أنها كذلك إن كانت العين تخبرني أن لا جمال في الدنيا يمكن تصوره يفوق جمالك لوزيرن !!

عندئذ اشتمل القلب على تمني الفردوس ، وسؤال الخالق الباريء المصور سكناها ، وأن يكون المآل إليها .. أسأل الله الفردوس !!

ثم إن كنت ووالدَيّ وإخوتي قد انعقدت ألسنتنا أمام هذه المناظر الخلابة بتسبيح الخالق جل وعلا .. فعلى أي كلمة سينعقد لسان الملحد والدهري ، وماذا تراه سيتمنى ويسأل ؟ .. هنا يقف عنده سقف الأمنيات .. يا للمسكين !

صعودا في طريق يتسلق جبلا نرى الأكواخ الأنيقة ذات العدد القليل تتناثر على سفوحه الخضراء هنا وهناك ، تزين نوافذها أكاليل الزهور الحمراء والملونة ، والأبقار السويسرية ترتع ، وتعلف وتعلف وتعلف ،لا تمل ! تتحرك أجراسها المعلقة في الأعناق كلما تزحزحت يمنة أو يسرة .

وإني لأرى سر جمال جبال الألب أنها تكتسي مساحات خضراء منبسطة تتباعد فيها الغابات فلا تفسد منظرها البهيج ، فتكتتفي الأشجار الطويلة أن تتكوّم هنا وهناك في مساحات محدودة ، ثم تزداد شيئا فشيئا قرب قمة الجبل ، حتى يخيل للناظر في الجو الغائم أن الجبال تبدأ عند قاعدتها فاتحة الاخضرار ، ثم يتدرج اخضرارها حتى تسوّد عند القمم ، تسوّد لكثرة التفاف الغابات واشتداد خضرتها ، هنا يفهم المرء كيف يميل اخضرار الأشجار إلى السواد عندما تلتف وتتكاثر ، هنا يكون معنى قوله تعالى " مدهامتان " قريبا حاضرا* .

لقد كان هذا المنظر البديع هو أجمل ما رأيت على الإطلاق !

ووصولا إلى منطقة سياحية ، أعلن المرشد أن هذه المنطقة هي أولى محطاتنا للنزول حيث المطعم المطل على البحيرة .

كان مرأى البحيرة أشبه بالحلم البارد اللذيذ .. أما وقد كنا نتأمل الجبال الخضراء تحتضن البحيرة الأنيقة أمامنا .. ويشوب الأفق شيء من الضباب .. إن هذا لهو نعيم الدنيا بعينه ، وإن هنا - تماما - ليجبرك التفكّر في بديع صنع الله أن يحل ، وأن يمتلك عليك القلب والخاطر ، كما امتلكت الحواسَ جمالُ المكان ، جنة دنياهم . ونسأل الله ألا يحرمنا جنة الفردوس !!





.


____________________

ادهام الشي : اسوادَّ ، وفي التنزيل العزيز " مدهامّتان" : سوداوان من شدة الخضرة .الوسيط



.

هناك ٩ تعليقات:

*نور* يقول...

طال الأنتظار لأشراقة حروفك يـاعمـه ..

كل شوق لتتمـه : )

غير معرف يقول...

الـثــريا *


ذكرتيني يا أم عبدالله بذكريات عطرة ولمة الأسرة الكريمة ..


"يالله الجنة .. يالله جمع الجنة "



باانتظآركِ يا غالية *

رحيل يقول...

أهلا بك *نور*

ستبقى أحرفي
- على تواضع قدرتها وعطائها-
متطلعة إلى رسم البهجة
على محيا الأحباب من المغتربين ..
هي الجسر يا غالية !
كوني دائما بقرب .
تسعدني إطلالتك .

الثريا*
نسيمٌ عطِر يتسلل إلى أروقتي
ذات الأجواء الراكدة
فينعشها ويحييها ..
ذاك هو حضورك البهيج ..
وأنتِ فردٌ من الذكريات
فيمنحها حياةً ,
ويجسّد واقعيتها فيما مضى من زمن ..
ياله من زمن جميل !

شهيدة يقول...

يأتي الغائب على استحياء

قرأت كل ما فاتني ، ورغم ما ضاق به وقتي لم انتبه الا وقد وصلت لآخر ما قرأته في آخر زيارة

عود أحمد خالتي رحيـل .. افتقدتك ومثلك يفتقد

أحسن الله عزائكم في أختكم رحمها الله وأسكنها فردوسه .. مثلها تثقل الدنيا بها وصنيعها ولا يحملها الا جوار الرحمن نحسبها كذلك والله حسيبها ..

في انتظار جديدكم


وكل عام وأنتم الى الله أقرب

محمد عبدالرحمن شحاته يقول...

رحيل
كل عام وانتي بخير
اعاد الله علينا وعليكي الايام بالخير واليمن والبركات
تقبلي مروري

محمد عبدالرحمن شحاته يقول...

ما اجمل الرحيل بل الترحال في عذا العالم الشاسع

عذراً على عدم متابعتي الفتره السابقه

رحيل يقول...

أهلا وسهلا بك عزيزتي شهيدة

شاكرة مواساتك ، وصلتك
لا فقدتِ عزيزا ،
ولا أراك الله مكروها فيمن تحبين ..
أنعشي وريقاتي الإلكترونية بزيارتك ..
وكوني بقرب

رحيل يقول...

الأخ الكريم
محمد عبدالرحمن شحاتة
حييت أهلا ، وكل عام وأنتم إلى الله أقرب ..
الترحال !
حسبي آن أصفه بأنه ..
مدرسة ..
وما كلماتي هاهنا إلا "دروسه" التي تلقيتها في قاعات الدنيا ..
وأسأل الله سبحانه أن تكون هذه الدروس حجة لي لا علي يوم ألقاه ..

غير معرف يقول...

ما شاء الله .

جميل :)

تقبلي مروري :)

ديومـآ